ـــ فهذه هي العلامة الثالثة من علامات خشوع القلب
وهي سرعة التوبة بعد المعصية ، فالتوبة هي الندم
على ما بدر من معاصي ، و الإقلاع عنها في الحال ،
و العزم على عدم العودة إليها في المستقبل ، كما
قال تعالى :
{ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ
فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ
وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135)
أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ } [ آل عمران ]
و عدم الاستهانة بالمعاصي تعينك على الإسراع بالتوبة ،
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم
{ إياكم ومحقَّرات الذنوب } [ سلسلة الأحاديث الصحيحة ].
و قد قال أنس بن مالك رضي الله عنه :
[ إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشَعر ،
إنا كنا نعدها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الموبقات ] ( رواه البخاري في صحيحه ) .
وكما قال ابن مسعود رضي الله عنه :
[ إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه ،
و إن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مرَّ على أنفه ]
( رواه البخاري في صحيحه ) .
فالتوبة فإذن من أعظم و أجلِّ صفات أهل الإيمان ،
فمن كان قلبه حياً بالإيمان لم يسرف على نفسه في فعل المعاصي
و الآثام بل يسرع في التوبة منها و يسرع في العودة إلى الله
و الإنابة إليه .
ـــ و رابع هذه العلامات هو تسليم كامل الأمر لرب العالمين
في غاية الذل والحب له ، فإن المؤمن يسلم نفسه لربه
منكسراً بين يديه ، متذللاً لعظمته مقدماً لحب ربه
على كل حب كما
قال تعالى :
{ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ
أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } [ النور ]
فمن كانت حاله هكذا كان وقافاً عند حدود الله مقبلاً
على طاعته ملتزماً بأمره ونهيه ، فإن القلب كلما ازداد حباً لله
وذلاً له ازدادت طاعته وعبوديته لرب العالمين ،
كما قال تعالى :
{ مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا
أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب : 36]
ـــ و العلامة الخامسة من علامات خشوع القلب و افتقاره إلى الله
فهي التعلق بالله تعالى ، فإن العبد إذا تعلق بربه صار مقيماً
على طاعته لا تلهيه زخارف الدنيا كما
قال تعالى :
{ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ
يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ (36)
رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ
وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ (37)
لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ
وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ النور ]
فمن تعلق قلبه بربه وجد لذة في طاعته وامتثال أمره ،
حتى تصير أوامر الله تعالى قرة العيون ، وسرور القلوب ،
ونعيم الأرواح ، ولذات النفوس ، فتصير قرة عينه في الصلاة
و الحج ، وفرح قلبه وسروره في الصيام و الذكر و التلاوة
وراحة بدنه في الصدقة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر
و الدعوة إلى الله بعد التعلم و التفقه في دينه ،
فيا لله ما أحلاها من ملذات و ما أعظمها من درجات .
و يالله ما أعظم خسارة فوت ذلك بتعلقه بغير الله من هوى متبع
أو دنيا زائلة أو ميت محتاج ، فابك على من يدعو غير الله
و يستعين بغيره و يتوسل بسواه و يستغيث بمن هو دونه !
إن هؤلاء من أعظم الناس خذلاناً وخسارة ، و العياذ بالله .
ـــ والعلامة الأخيرة من علامات خشوع القلب و فقره إلى الله
هي مداومة ذكره و استغفاره ، فقلب المؤمن
عاكف على ذكر مولاه ، و الثناء عليه بأسمائه الحسنى
و صفاته العلى ، دائم التوبة و الاستغفار ،
يجد لذته و أنسه بتلاوة القرآن ، ويرى راحته وسكينته
بمناجاة الرحمن ، كما
قال تعالى :
{ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ
تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } [ الرعد :28].
فمداومة الذكر و الاستغفار علامة من علامات الافتقار إلى الله
كما قال تعالى واصفاً المؤمنين
بقوله : { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ
وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا
سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)
رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَه
وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192)
رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا
رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ (193)
رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ
إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ } [ آل عمران ].
وتأمل أدعية النبي صلى الله عليه وسلم
ما أحسنها و ما أبلغها ، وهي كثيرة يصعب حصرها الآن ،
فهو الذي قد قال :
{ و الله إني لأستغفر الله و أتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة } [ رواه البخاري في صحيحه ] ،
فإن حمد الله تعالى وشكره و الثناء عليه بما هو أهله
مع الاعتراف بالذنب و العجز ؛ يعمّر القلب بالنور ،
ويوجب له الطمأنينة و السعادة ،
فإن في القلب حاجة لا يسدها إلا ذكر الله عز وجل .
فيا أيها الناس من حقق الفقر إلى الله وخشع قلبه إليه كان غنياً
بلا مال ، عزيزاً بلا عشيرة ، مهاباً بلا سلطان ،
و أما من لم يحقق ذلك فهو فقير مع كثرة ماله ،
حقير مع كبر عشيرته ، ذليل مع عظم سلطانه وجاهه .
قال الإمام ابن القيم في مدراج السالكين :
” في القلب شعث، لا يلمه إلا الإقبال على الله.
وفيه وحشة، لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته.
وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته ،
وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه، والفرار منه إليه ،
وفيه نيران حسرات: لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه،
ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه ،
وفيه طلب شديد: لا يقف دون أن يكون هو وحده مطلوبه ،
وفيه فاقة: لا يسدها إلا محبته، والإنابة إليه، ودوام ذكره،
وصدق الإخلاص له. ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة منه أبدا “
{ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [ الأعراف : 23]