بنت الشهيد
أمي العزيزة.. حتى لو لم يصدقني أحد فإنك ستصدقيني
ففي أحضانك الدافئة نشأت وكبرت وتعلمت.. أنت لم تعلميني الكذب.. وتعرفين أيضا أنني لا أحتاج لان أكذب
وهل انتهى الصدق؟ ثم لماذا أريد أن يصدقني الناس ؟
الناس لايصدقون مايرون بأنفسهم, وهذا ليس بشيء.
ان المهم هو أن يصدقوا الأشياء العجيبة
في ذلك اليوم قالت الناظرة في المدرسة..ورقة العلامات يوقعها الأباء فقط!
رفعت يدي وقلت: وإذا غاب الأب يا حضرة الناظرة ماذا نفعل؟
قالت الناظرة: اصبري حتى يعود أبوك، وفي كل الأحوال الأب وحدة الذي يوقع الورقة
سألت: والأم.. ألا يمكنها أن توقع؟
أجابت الناظرة بعصبية: هل تتصوريني حمقاء يا بلهاء، هل أنت عاجزة عن فهم ما أقول؟
ضحكت التلميذات ... تصورت بعضهن أنني بلهاء لا أفهم ماتقول الناظرة، ولكن كيف أكون بلهاء وأنا قد حققت معدلاً جيداً خلال ست سنوات متوالية
لهذا قلت للناظرة: إنني أفهم ماتقولين ياسيدتي.. من أجل هذا سألت
أصبحت الناظرة مثل نمرة جريحة هجمت علي وانتزعتني من المقعد ورمت بي إلى خارج الصف
وقفت المعلمة مثل التمثال لم تدافع عني أمام هذهِ الإهانة!
عندما عدت إلى البيت سألتيني يا أمي: لماذا أنتِ حزينة؟!
لم أجب لأني لم أحب إدخال الحزن على قلبك.. أردت إخفاء حزني، ولكن قلبي كان مكسوراً... مكسوراً للدرجة التي لا ينفع فيها حتى البكاء، ولكني لا أملك غير أن أبكي
وعدت إلى غرفتي حيث توجد صورة لأبي على الرف
اخذت الصورة ووضعتها على السجادة، أخرجت ورقة العلامات وقلت لأبي:
أنظر يا أبي إلى معدل ابنتك.. وقع يا أبي..
إن المدرسة لا تقبل سوى توقيع الأباء..ألم تقل لي من قبل أن الشهداء أحياء؟
نعم يا أبي لقد كان في مقدوري -مثل الأخريات- أن أقول: ليس لي أب لقد استشهد أبي..
وهكذا أكون أرحت واسترحت
لو أنك مت يا أبي لفعلت ذلك لكنك شهيد، ولا أريد أن يحترمني الآخرون بسبب تضحياتك
لا أريد أن يكون احترامي لدى الآخرين بسبب دمك القاني الذي سقيت به الأرض
من أجل هذا سعيت أن يكون سلوكي مرضياً حتى لا تستدعي المدرسة أبي إذا ماحدثت مشكلة، ومن ثم يكتشف الجميع إنني ابنه شهيد، ومن ثم يصدر عفو بسبب ذلك
إن هذا لا يليق يا أبي بأبناء الشهداء
نعم لا أتذكر يا أمي ماذا قلت لأبي.. كل ما أذكره انني كنت أبكي..كنت أبكي بمرارة
لا ادري ها استغرقت في النوم أو لا، ولكنني أحسست أن شذى طيباً يدور في الفضاء، وكان يشتد كل لحظة، لا أدري أي نوع من العطور كان يا أمي
كان العطر يشبه رائحة الورود الحمراء، ولكنه أكثر لطافة! كان من النوع الذي لم يشمة أحد من قبل
أنت تعرفين -يا أمي- كم أحب شذى الورود الحمراء، ولكن هذا العطر لايمكن مقارنته بما أحسسته آنذاك
وانفتح الباب يا أمي، وظهرت كتلة من البياض تشبه الضباب
تشبه سحابة بيضاء اكتنفت الباب.. ظللت أحدق في الباب، ورأيت أبي يرتدي حلة بيضاء
كان وجهه كقمر مضيء، وكان عنقه الذي ضربته شظية أكثر إضاءة من وجهه
فكان وجهه يستمد النور من مكان الإصابة.
نعم... كانت منطقة الإصابة أشبه بقمر مضيء تحفه هالة
كان وجهه -يا أمي- شفافاً مضيئاً لا يستطيع المرء أن يقبله هيبة له.
كان رأسه معصوباً بشريط أحمر كتبت عليه بأحرف من نور
((نحن عشاق الشهادة))
ومثل برعم يتفتح كان بسمة تشرق في فمه, وتحرك أبي ..تقدم بهدوء سحابة بيضاء في السماء
جلس عند صورته، لم يكن يشبهه الصورة.
أمسك بورقة العلامات وراح يتامل في درجاتي، ثم وضع يده داخل قميصه الأبيض وأخرج قلماً نفس القلم الذي كان يكتب به ثم وقع أسفل الورقة
التفت إلي وضع كفيه على وجهي، وقبلني في جبيني
مازال حتى الآن -يا أمي- لثمته، وقبلت نحرة في المكان الذي حلت بيني وبين رؤيته
وشعرت بالطمانينة تملأ قلبي، وعانقت أبي، وامتلأ صدري بشذى الورد الأحمر..تعلقت بحلتة البيضاء الأكثر لطافة من الحرير
قلت له:
لا تذهب يا أبي...لا تتركنا وحدنا!
أخذ أبي كفي و وضعهما بين كفيه الدافئتين وقال:
- أنتم لستم وحدكم يا مريم..إن الله معكم، وعندما تكونوا مع الله فإنكم لاتكونوا وحيدين..
ثم إنني لا أذهب بعيداً أنا بينكم دائماً.. سلي أمكِ هل مر يوم ولم نتحدث معاً؟
قلت لأبي:
- إذن فكر في أزهار ماتزال طفلة... إنها تظنك ذهبت في سفر وستعود تحمل إليها الهدايا..
كلما رن جرس تهب كمن صعقها تيار كهربائي.. تتعجب منا كيف لا نهب معها, تقول لنا:
- لماذا الجلوس؟ لقد جاء أبي...هيا افتحوا الباب
أمي تختنق بعبرتها وتقول:
- إن أباك لا يدق الجرس هو يفتح الباب
ولكن أزهار تقول:
-ربما يحمل الكثير من الهدايا بحيث لا يستطيع أن يفتح الباب
عندما قلت ذلك لأبي تجمعت الدموع في عينيه وقال:
-أنا أعرف ذلك يا مريم
قلت لأبي:
-أشكرك يا أبي لإنك وقعت ورقة العلامات، لقد هدأ قلبي، ولكن ماذا أفعل بقلب أزهار؟
قال أبي:
-الله سيملأ قلبها بالطمأنينة والأمل.
قال أبي ذلك ونهض كشيء شفاف وخفيف
فجأة انتبهت إلى نفسي ورأيت مكان أبي خالياً، وركضت صوب الباب فتحته وهتفت:
-بابا!...بابا!
ولكن أبي قد مضى وجئت...فهاك يا أمي ورقة العلامات وهاك رائحة أبي
قصص وحكايات من عالم الفتيات
منقول