بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
الوحش هو الإنسان البعيد عن الله عز وجل :
هذا الإنسان إذا لم يعرف الله وحش, الوحش أرحم منه, الوحش يفترس, يشبع, يرتاح, لم يعد يقترب من أحد, أما هذا الإنسان فوحش؛ يتعطش إلى الدماء, وإلى القتل.
والله الإنسان أحياناً يخجل أن ينتمي إلى الجنس البشري؛ إن هذا العصر عصر علم, إنه عصر حضارة, إنه عصر قيم, إنه عصر حقوق الإنسان, المجرم له معاملة خاصة, هناك اتفاقيات للمجرمين فكيف إن كان الإنسان ليس له أي ذنب لكن فقط لأنه مسلم!؟ أي هناك أشياء تفوق حدّ الخيال.
هذا الإنسان إذا كان بعيداً عن الله فهو وحش, بأي مكان في العالم إذا كان الإنسان مقطوعاً عن الله فهو وحش، فتعليقي كان: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾
[سورة آل عمران الآية:159]
المسلم شيء كبير, المسلم يوجد في قلبه رحمة لعدوه, لألد الأعداء, لا يوجد عنده إمكانية أن يعذب إنساناً, لا يتحمل أساساً- ليست قضية تصنع- أن يعذب مخلوقاً.
النبي رأى شخصاً يذبح شاة أمام أختها, غضب, قال له: ((أتريد أن تميتها مرتين؟ هلا حجبتها عن أختها؟ قال: إذا قَتلتُم فأحسِنُوا القِتلة، وَإِذا ذَبحتُم فأحْسِنُوا الذَّبحَ، وليُحدَّ أحدُكم شَفرَته، ولْيُرِحْ ذبيحَته))
[أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن شداد بن أوس]
هذا توجيه النبي صلى الله عليه و سلم. على الإنسان ألا يرضى لقلبه إلا بأنظف العلوم :
قال حاتم الأصم: "لا تجلس إلى كل عالم, ولا تستمع من كل متكلم, واعلم أن لجسدك قوتاً, ولقلبك قوتاً, وقد أمرت بطلب القوتين معاً, -تريد طعاماً, تريد علماً-, فكما أنك لا ترضى بجسدك إلا بالطيب من الأقوال, -كل شخص منا لا يتناول طعاماً فاسداً, رائحته كريهة, أو هذه بضاعة من الدرجة العاشرة ليست جيدة, إذاً لماذا أنت لا ترضى غير طعام طيب, وترضى بعلم غير طيب؟-, فكما أنك لا ترضى إلا بالطيب من الأقوال, فكذلك لا ترضى لقلبك إلا أنظف العلوم, وكما أن لك في قوت يومك حلالاً تحاسب عليه, وحراماً تعذب به, وشبهة تعاتب عليها, كذلك في قوت قلبك مثله, فتدبر".
هل هناك درس ليس فيه حق؟! هناك دروس فيها سحبات وخرافات و كلام له مصالح, يمكن أن يأتي بآية يفسرها لمصلحة, يأتي بحديث لمصلحة, يركز على آيات معينة, يغفل آيات معينة, هنا أصبح هناك مصالح.
النبي عليه الصلاة و السلام لما مات ابنه إبراهيم, الصحابة من شدة محبتهم له, والشمس كسفت, توهموا أن كسوف الشمس لموت ابنه إبراهيم –الآن: أي إنسان إذا كان هناك عمل يرفع شأنه, يبقى صامتاً, جيد- النبي قال: "إن الشمس والقمر آيتان, لا ينبغي أن تنكسفا لموت أحد من خلقه".
انظر إلى الطرح العلمي، مستحيل أن يقبلها النبي, هذه أمانة.
إذا شخص أوهمك, تقول: ما شاء الله! على هذه الكرامات, يقول لك: الشيخ يعرف المريد, هذا كلام فيه شطحات, الشيخ عبد لله.
النبي عليه الصلاة و السلام لا يعلم إلا أن يُعلم, جاءه وفد, وطلب منه قرَّاء, والقراء قتلوا جميعاً, لماذا لم يعرف النبي؟ الله عز وجل أرسل له الوحي لمئة قضية صغيرة جداً, هنا لم يبعث الوحي؛ ليعلمنا أن النبي لا يعلم إلا أن يُعلمه الله, لا يعلم إلا أن يُعلم, فمن أنت؟ لا تعلم. كثرة الكلام تدل على قلة صدق الرجل :
قال: "وإن من علامة عالم الآخرة ألا يكون محباً للدنيا, ولا جريئاً على الفتيا, ولا ذا شهوة في كثرة الكلام".
الجرأة على الفتيا، أنا أستغرب, رأساً يقول له: حلال, هذه قضية ربوية, حلال, لا يوجد فيها شيء, ضعها في رقبتي, الذي عنده جرأة على الفتيا, هذه علامة غير طيبة, والجبان في الفتيا علامة طيبة.
قال: "إن من فتنة العالم أن يكون الكلام أحب إليه من السكوت".
الكلام شهوة.
قال الحسن البصري: "يُستدل على قلة صدق الرجل بكثرة كلامه".
وقيل: "الصمت زينٌ للعالم, وستر للجاهل, وكثرة الكلام تفضح الجاهل, وتُذهب بهاء العالم, - إنسان جاهل, وجد كل الدعاة يتحدثون بالعلم, فقال في نفسه: وأنا أيضاً أريد أن أدلي بدلوي, فقال: صعدوا إلى الشمس يا بني! -هم صعدوا إلى القمر-, قال لهم: صعدوا إلى الشمس, عنده تلميذ فهيم, قال له: يا سيدي, لسان الشمس طوله مليون كيلو متر, فكر, قال له: صعدوا في الليل، فالكلام يفضح الجاهل, ويُذهب بهاء العالم, وكان التورع عن جواب المسائل, والسكوت عن كثير من العلوم طلباً للسلامة, معروف في الصحابة, وخيار التابعين, وصالح السلامة لا يحتاج إلى وجاهة, ولا يحتاج إلى قضاء".
الإمام أبو حنيفة ضُرب مئة جلدة, لأنه رفض القضاء.
قال له: يا بني! دفعوا لي ثلاثمئة ألف, وأعلم أن البيت لك, لكن إن كان دفعتهم أحكم لك, دبر حالك, هذا قاض من نوع آخر.
القاضي النزيه طُرق بابه, قدم له طبق من الرطب, فقال له الغلام: "هذا الطبق قدم إليك, قال له: ممن؟ قال له: من رجل في الباب, قال له: صفه لي, وصفه فإذا أحد خصومه في المحكمة, قال له: ردَّه, فرده, في اليوم الثاني حكم, وفي اليوم الثالث طلب إعفائه من القضاء, فقال له الخليفة: لماذا؟ قال له: والله! قدم لي طبق من الرطب, في اليوم الثالث تمنيت أن يكون الحق مع الذي قدم لي هذا الطبق, مع أني لم آخذه, فكيف لو أخذته؟ قال: من أفتى الناس في كل ما يشتهونه, فهو مجنون".
وقال أبو محمد: "العالم هو الذي يقعد فيسكت, ويرفع قلبه إلى مولاه فيفتقر إليه في حسن توفيقه, ويسأله أن يلهمه الصواب, وأي شيء سئل عنه يتكلم فيه بما فتح له مولاه".
وكان أنس بن مالك إذا سئل عن شيء يقول: "سلوا مولانا الحسن, فإنه حفظ ونسينا". بطولة الإنسان أن يعطي الفتوى بشكل صحيح مع الدليل :
الآن هناك عالم معاصر, يقول لك: غير فهيم, اشتهيت أن أسمع مدحاً من إنسان لإنسان، أبداً, حتى بين الأطباء, يكون هناك مريض عند طبيب يأتي إلى طبيب ثان: من وصف لك هذه الوصفة؟, يقلب خلقته, كأنه جاهل, تجد كل شخص يبني مجده على أنقاض الآخرين, هذا سلوك أهل الدنيا, هذه عداوة الكار.
أما ماذا قال له: "سلوا مولانا, فإنه حفظ ونسينا".
انظر: كيف العالم يحترم زميله و يقدره.
وجاء في الأثر: "كانت المسالة من العلم, يُسأل عنها الرجل من الصحابة, فيردها إلى الآخر, ويردها إلى الآخر, حتى ترجع إلى الذي سئل عنها".
لا تقولوا حرام ببساطة, التحريم سهل أينما كان, البطولة أن تعطي الفتوى الصحيحة مع الدليل, أما إذا كان الإنسان ضعيفاً فيقول لك: حرام, حرام, حرام, وقفت الحياة؛ لأن كل شيء عنده حرام, تريد أن تعطي فتوى مع دليل بجرأة.
قال: سيدنا عمر إذا سئل عن مسألة, جمع الصحابة, فبدأ بأهل بدر, ثم المهاجرين, ثم الأنصار, فإذا لم يجد جواباً عندهم, التفت إلى ابن عباس, وقال له: "غُص يا غوَّاص, -غص في النصوص-, واستنبط الحكم, -أي استنبط من القرآن-, ثم إلى ابن مسعود ثلاثين يوماً, - هناك مسألة ابن مسعود سئل ثلاثين يوماً فلم يجيبهم عن ذلك-, ثم قال بعد ثلاثين أجيب بها في رأيي؛ فإن كان صواباً فمن الله, وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان, والله ورسوله بريئان من هذا".
وقال النبي -عليه الصلاة والسلام-:
((مَنْ كَانَ يؤمِنُ بالله واليوم الآخر، فليقل خيراً أو لِيَصْمُت))
[أخرجه البخاري والترمذي عن أبي هريرة]
وكان رجل يقول لأبي بكر الصديق: "إذا كان العلم عند من لا يعمل به, والسلاح عند من لا يقاتل به, والمال عند من لا ينفقه, والرأي عند من لا يقبل منه, ضاعت الأمور". الإنسان لا يقطف الثمار إلا بالتطبيق :
أيها الأخوة, مرة ثانية تعقيب على ما بدأت: نحن لا يوجد عندنا طبقة رجال علم في الدين الإسلامي؛ كل شخص منا يكون طالب علم, وأديباً مع الله, ومطبقاً لما يعلم, كل شخص منا يجب أن يكون ولياً لله, يطلب العلم, ويطبقه.
وبصراحة بالمثل العامي: "علم قليل تطبقه أفضل مليون مرة من علم غزير غير مطبق".
علم قليل؛ عشر آيات احفظهم, وطبقهم, أفضل من أن تكون أكبر جامع للقرآن الكريم, عشر قراءات, لكن غير مطبق شيئاً, عشر آيات مطبقة أفضل مليون مرة من كتاب بأكمله غير مطبق.
والإنسان لا يقطف الثمار إلا بالتطبيق, وأعظم إنسان هو إنسان قلبه عامر بذكر الله, موصول, هناك خط مع الله سالك, مفتوح, الذي له خط مع الله هذا من أسعد الناس, من دون ضجيج, ولتكن ما تكن؛ كن من الدرجة العاشرة, كن من المغمورين.
هؤلاء الأتقياء الأخفياء إذا وجدوا لم يعرفوا, وإذا غابوا لم يفتقدوا.
إذا كان موجوداً لا تعرفه, وإذا لم يأت بشهر لا أحد يسأل عنه إطلاقاً, لأنه ليس مشهوراً.والحمد لله رب العالمين
م/ن