الفاء الفصيحة في القرآن
حروف المعاني هي حروف الجر نفسها، غير أنها سميت بالتسمية الأولى؛ نظراً لوظيفتها اللغوية والبيانية؛ لأنها تحمل معاني محددة، وتهدف إلى مقاصد بيانية مرادة. وسميت بالتسمية الثانية؛ نظراً لوظيفتها النحوية، لأنها تجر الاسم الذي يليها بحركة الكسر كما هو معلوم.
ومن هذه الحروف حرف (الفاء)، ومعانيه الأساسية تفيد أنه يدل على الترتيب والتعقيب والسببية، وتدخل بشروط معينة على جواب الجملة الشرطية. ويذكر المفسرون في هذا الخصوص ما يسمى بـ (الفاء الفصيحة)، فما هي هذه (الفاء)، وما دلالتها، وما هي أمثلتها في القرآن الكريم؟
تعريف الفاء الفصيحة
تُعرَّف (الفاء الفصيحة) بأنها: التي يحذف فيها المعطوف عليه مع كونه سبباً للمعطوف. وقيل: سميت فصيحة؛ لأنها تفصح عن محذوف، وتفيد بيان سببيته. وقال بعضهم: هي الداخلة على جملة مسَبَّبة عن جملة غير مذكورة. وكل هذه التعريفات قريبة، وهي تفيد أن هذه (الفاء) يؤتى بها للإفصاح عن شيء مقدر، لا بد من تقديره ليستقيم المعنى. قال الآلوسي في هذا الصدد: الفاء الفصيحة تفيد كون مدخولها سبباً عن المحذوف، سواء ترتب عليه أو تأخر؛ لتوقفه على أمر آخر.
ويذكر أهل اللغة شاهداً شعريًّا لهذه (الفاء)، وهو قول العباس بن الأحنف:
قالوا خراسان أقصى ما يُراد بنا ثم القُفولُ فقد جئنا خُراسانا
التقدير: فقلنا: قد جئنا خراسانا. فالمحذوف فعل (القول)، وقد أفصحت (الفاء) عن هذا المحذوف.
وذكر أبو البقاء صاحب (الكليات)، أن (الفاء) لا تسمى فصيحة، إن لم يحذف المعطوف عليه، بل إن كان سبباً للمعطوف تسمى فاء التسبيب، وإلا تسمى فاء التعقيب.
الغرض منها
يُستفاد من تعريفات (الفاء الفصيحة) التي ذكرناها آنفاً، أن الغرض من الإتيان بهذه (الفاء) إنما هو الدلالة على مضمون كلام قبلها. وإن شئت قل: يؤتى بها للإفصاح عن كلام مقدر، مستفاد من كلام سابق عليها.
أمثلة من القرآن
ورد في القرآن الكريم استخدام (الفاء الفصيحة) في مواضع عديدة، نذكر منها المواضع التالية:
قوله تعالى مخاطباً موسى وأخاه هارون عليهما السلام: {اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا} (الفرقان:36)، (الفاء) في قوله: {فدمرناهم} هي المسماة (الفاء الفصيحة)، وهي عاطفة على محذوف، والتقدير: فذهبا إليهم، فكذبوهما، فدمرناهم. ولا بد من هذا التقدير؛ ليستقيم المعنى؛ إذ (التدمير) مترتب على (التكذيب).
قوله سبحانه مخاطباً بني إسرائيل بشأن البقرة: {فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم} (البقرة:54)، (الفاء) في قوله: {فتاب} هي المسماة (الفاء الفصيحة)، والتقدير: فامتثلتم، فتاب عليكم.
قوله تعالى: { فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا } (البقرة:60)، (الفاء) في قوله: {فانفجرت} هي المسماة (الفاء الفصيحة)، والتقدير: فضرب، فانفجرت.
قوله سبحانه بخصوص رخصة الفطر في رمضان للمريض والمسافر: {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} (البقرة:114)، (الفاء) في قوله: {فعدة} هي (الفاء الفصيحة)، والتقدير: فأفطر، فعليه صيام أيام بعدد الأيام التي أفطرها.
قوله تعالى مخاطباً أهل الكتاب: {أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير} (المائدة:19)، (الفاء) في قوله: {فقد جاءكم} هي المسماة (الفاء الفصيحة)، والتقدير: لا تعتذروا، فقد جاءكم بشير ونذير.
قوله تعالى: {ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه} (البقرة:143)، (الفاء) في قوله: {فقد رأيتموه} هي المسماة (الفاء الفصيحة)، والتقدير: وأُجبتم إلى ما تمنيتم، فقد رأيتموه، أو التقدير: فإن كان تمنيكم حقاً، فقد رأيتموه.
قوله سبحانه: {يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك} (النساء:153)، (الفاء) في قوله: {فقد سألوا} هي المسماة (الفاء الفصيحة)، دالة على مقدر، دلّت عليه صيغة المضارع {يسألك} المراد منها التعجيب، أي: فلا تعجب من هذا، فإن ذلك معهود لأسلافهم مع رسولهم؛ إذ سألوه معجزة أعظم من هذا.
قوله تعالى: {وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين} (المائدة:68)، (الفاء) في قوله: {فلا تأس} هي المسماة (الفاء الفصيحة)، لأن رحمة الرسول بالخلق تحزنه مما بلغ منهم من زيادة الطغيان والكفر، فنبهت هذه (الفاء) على أنهم ما بلغوا ما بلغوه إلا من جراء الحسد للرسول صلى الله عليه وسلم، فحقيق أن لا يحزن لهم.
قوله سبحانه: {أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم} (الأنعام:157)، (الفاء) في قوله: {فقد جاءكم} هي المسماة (الفاء الفصيحة)، والتقدير: فإذا كنتم تقولون ذلك، ويهجس في نفوسكم، فقد جاءكم بيان من ربِّكم، يعني القرآن، يدفع عنكم ما تستشعرون من الانحطاط عن أهل الكتاب.
قوله تعالى: {فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه} (الأعراف:157)، (الفاء) في قوله: {فالذين آمنوا به} هي المسماة (الفاء الفصيحة)، والمعنى: إذا كان هذا النبي كما علمتم من شهادة التوراة والإنجيل بنبوءته، ومن اتصاف شرعه بالصفة التي سمعتم، علمتم أن الذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا هديه، هم المفلحون.
قوله سبحانه: {ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون} (يونس:31)، (الفاء) في قوله: {فقل} هي (الفاء الفصيحة)، والتقدير: إن قالوا ذلك، فقل: أفلا تتقون.
قوله سبحانه: {قالت فذلكن الذي لمتنني فيه} (يوسف:32)، (الفاء) في قوله: {فذلكن} هي (الفاء الفصيحة)، والمعنى: إن كان يوسف عليه السلام كما زعمتن مَلَكاً، فهو الذي بلغكن خبره، فلمتنني فيه.
قوله تعالى: {فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية} (:92)، (الفاء) في قوله: {فاليوم} هي (الفاء الفصيحة)، والمعنى: فإن رِمْتَ بإيمانك - بعد فوات وقته - أن أُنجيك من الغرق، فاليوم ننجيك ببدنك.
قوله سبحانه: {لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث} (الروم:56)، (الفاء) في قوله: {فهذا يوم} هي (الفاء الفصيحة)، أفصحت عن شرط مقدر، وتفيد معنى المفاجأة، أي: إذا كان كذلك فهذا يوم البعث.
قوله تعالى: {فقد كذبوكم بما تقولون} (الفرقان:19)، (الفاء) في قوله: {فقد كذبوكم} هي (الفاء الفصيحة)، أفصحت عن حجة بعد تهيئة ما يقتضيها، والتقدير: إن قلتم: هؤلاء آلهتنا، فقد كذبوكم.
قوله سبحانه: {فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء} (يس:83)، (الفاء) في قوله: {فسبحان} هي (الفاء الفصيحة)، والمعنى: إذا ظهر كل ما سمعتم من الدلائل على عظيم قدرة الله، وتفرده بالإلهية، وأنه يعيدكم بعد الموت، فينشأ تنزيهه عن أقوالهم في شأنه المفضية إلى نقص عظمته؛ لأن بيده الملك الأتم لكل موجود.
قوله تعالى: {إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى} (الصافات:102)، (الفاء) في قوله: {فانظر} هي (الفاء الفصيحة)، والتقدير: إذا علمت هذا، فانظر ماذا ترى.
قوله سبحانه: {فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين} (الصافات:177)، (الفاء) في قوله: {فإذا نزل} هي (الفاء الفصيحة)، والتقدير: إن كانوا يستعجلون بالعذاب، فإذا نزل بهم، فبئس وقت نزوله.
قوله تعالى: {ذلك اليوم الحق فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا} (النبأ:31)، (الفاء) في قوله: {فمن شاء} هي (الفاء الفصيحة)، أفصحت عن شرط مقدر ناشئ عن الكلام السابق. والتقدير: فإذا علمتم ذلك كله، فمن شاء اتخاذ مآب عند ربه، فليتخذه، أي: فقد بان لكم ما في ذلك اليوم من خير وشر، فليختر صاحب المشيئة ما يليق به للمصير في ذلك اليوم.
قوله سبحانه: {فلينظر الإنسان إلى طعامه} (عبس:24)، (الفاء) في قوله: {فلينظر} هي (الفاء الفصيحة)، والتقدير: إن أراد أن يقضي ما أمره، فلينظر إلى طعامه. أو إن أراد نقض كفره، فلينظر إلى طعامه. وهذا نظير (الفاء) في قوله تعالى: {فلينظر الإنسان مم خلق} (الطارق:5)، أي: إن أراد الإنسان الخلاص من تبعات ما يكتبه عليه الحافظ، فلينظر مِمَّ خُلق؛ ليهتدي بالنظر، فيؤمن، فينجو.
قوله تعالى: {فكفروا به فسوف يعلمون} (الصافات:170)، (الفاء) في قوله: {فكفروا} هي (الفاء الفصيحة)، والتقدير: فجاءهم محمد صلى الله عليه وسلم بالذكر، فكفروا به.
وثمة أمثلة كثيرة في القرآن الكريم غير ما تقدم، جاءت (الفاء) فيها بالمعنى الذي ذكرناه.
وبعد، فها هنا رأي نبديه بخصوص هذه (الفاء)، وهو أن القول: إن هذه (الفاء) سميت (فصيحة)؛ كونها أفصحت عن جواب مقدر، قول فيه شيء من التجوز؛ إذ إن الذي أفصح عن هذا المحذوف في الواقع إنما هو السياق، وليس هذه (الفاء)، لكن ربما نسبوا هذا الإفصاح عن هذا المحذوف إلى هذه (الفاء)، ولم ينسبوه إلى (السياق)؛ كونها شيء ظاهر في الكلام، وما كانت دلالته من جهة اللفظ أقوى مما كانت دلالته من جهة المعنى. وربما يفسر هذا عدم بحث النحاة وأهل اللغة لهذه (الفاء) المسماة (الفصيحة).
بقي أن نلفت الانتباه أخيراً إلى أن هذه (الفاء) المسماة الفصيحة، لم يفصح عنها بعض المفسرين في تفاسيرهم، كـ الطبري، وابن كثير، وغيرهما، وبالمقابل فقد أفصح عنها، وأبان أمرها، ورفع شأنها، فريق من المفسرين، كـ الزمخشري، والآلوسي، وابن حيان، وابن عاشور، وغيرهم، ممن له التفات واهتمام بالجوانب البيانية في القرآن، فلا تعجب ممن سكت عنها. {ولكل وجهة هو موليها} (البقرة:148).