الحمد لله وكفى, وصلاة وسلام على عباده الذين اصطفى, ونخص نبيه المصطفى وآله وصحبه ومن بهديهم اقتفى، أما بعد:
فإن المساجد أحب البقاع إلى الله - سبحانه وتعالى -، ولذلك لزم كل مسلم ومسلمة التأدب بآدابها عند زيارتها، ومن هذه الآداب: تعظيمها وتطهيرها، وتطييبها وتنظيفها، ومنع كل رائحة كريهة فيها؛ لأن ذلك مما يسبب القلق لمرتاديها من عباد الله من الملائكة وصالحي المؤمنين، وقد جاء النص على بعض هذه الروائح الكريهة في حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - عَنْ النَّبي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلمَ - قالَ: ((مَنْ أكَل ثُوماً أوْ بَصَلاً فَلْيَعْتَزِلنا - أوْ ليعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا- ليْقْعُدْ في بَيتهِ))1، وعَنه أيضاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ((مَنْ أكلَ البُصَلَ أو الثُّومَ أو الْكُرَّاثَ فَلا يَقْرَبَنَّ مَسْجدَنَا، فَإنَّ الْمَلاِئكَةَ تَتَأَذّى ممَّا يَتَأذّى مِنْهُ بَنوُ الإنْسَانِ))2.
وخطب عمر - رضي الله عنه - الناس يوم جمعة فقال: "ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ تَأْكُلُونَ شَجَرَتَيْنِ لَا أَرَاهُمَا إِلَّا خَبِيثَتَيْنِ, هَذَا الْبَصَلَ وَالثُّومَ، لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا وَجَدَ رِيحَهُمَا مِنْ الرَّجُلِ فِي الْمَسْجِدِ أَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ إِلَى الْبَقِيعِ، فَمَنْ أَكَلَهُمَا فَلْيُمِتْهُمَا طَبْخاً"3.
وفي مجموع هذه الأحاديث النهي عن أكل أي رائحة كريهة لمن يرغب حضور الجماعة في بيوت الله - سبحانه وتعالى -.
كما ينبغي أن يُعلم أن أَكلها ليس محرَّماً بذاته؛ ولكن لمن سيذهب إلى المسجد، لما روى أَبو أَيُّوب "أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ إلَيْهِ بِطَعَامٍ لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((فِيهِ الثُّومُ))، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحَرَامٌ هُوَ؟ قَالَ: ((لا، وَلَكِنَّنِي أَكْرَهُهُ مِنْ أَجْلِ رِيحِهِ))"4؛ يقول ابن حزم - رحمه الله تعالى -: "مسألة: والثوم, والبصل, والكراث؛ حلال، إلا أن من أكل منها شيئاً فحرام عليه أن يدخل المسجد حتى تذهب الرائحة... وله الجلوس في الأسواق, والجماعات، والأعراس وحيث شاء، إلا المساجد لأن النص لم يأت إلا فيها"5.
وَالْمُرَادُ حُضُورُ الْجَمَاعَة حَتَّى وَلَوْ فِي غَيْرِ مَسْجِدٍ، أَوْ غَيْرِ صَلاةٍ، ويُكْرَهُ حُضُورُ مَسْجِدٍ وَجَمَاعَةٍ مُطْلَقاً لِمَنْ أَكَلَ ثُوماً أَوْ بَصَلاً نِيئَيْنِ، أَوْ فُجْلاً وَنَحْوَهُ كَكُرَّاثٍ حَتَّى يَذْهَبَ رِيحُهُ، لِمَا فِيهِ مِنْ الإِيذَاءِ، وَيُسْتَحَبُّ إخْرَاجُهُ، وَكَذَا جَزَّارٌ لَهُ رَائِحَةٌ مُنْتِنَةٌ، وَمَنْ لَهُ صُنَانٌ وَزِيَاتٌ وَنَحْوُهُ مِنْ كُلِّ ذِي رَائِحَةٍ مُنْتِنَةٍ؛ لأَنَّ الْعِلَّةَ الأَذَى.
ويلحق بالمنع من حضور الجماعة في المسجد كل ما فيه رائحة كريهة، وَكَذَا مَنْ بِهِ بَرَصٌ أو جُذَامٌ يُتَأَذَّى بِهِ قِيَاساً عَلَى أَكْلِ الثُّومِ وَنَحْوِهِ بِجَامِعِ الْأَذَى، وَيَأْتِي فِي التَّعْزِيرِ مَنْعُ الْجَذْمَى مِنْ مُخَالَطَةِ الأَصِحَّاء6، ويلحق بذلك سائر المشروبات أو المطعومات التي لها روائح كريهة؛ ويلحق بها أيضاً الدخان لما له من رائحة كريهة، ويكره أن يصلي الجماعة حتى يغتسل أو تزول الرائحة، وقد قال بذلك العلامة ابن باز - رحمه الله تعالى -: "وكل ما له رائحة كريهة حكمه حكم الثوم والبصل كشارب الدخان، ومن له رائحة في إبطه، أو غيرهما مما يؤذي جليسه، فإنه يكره له أن يصلي مع الجماعة، وينهى عن ذلك حتى يستعمل ما يزيل هذه الرائحة، ويجب عليه أن يفعل ذلك مع الاستطاعة حتى يؤدي ما أوجب الله عليه من الصلاة في الجماعة7.
فليس الأمر إذن مقصوراً على الثوم والكراث والبصل فحسب، بل يشمل كل ما له رائحة كريهة مؤذية للناس؛ كرائحة التبغ الذي يتعاطاه المدخنون، فعلى من ابتلى به ألا يتعاطاه عند ذهابه إلى المسجد، وأن ينظف أسنانه وفمه حتى يقطع رائحته أو يخففها.
نسأل الله أن يوفقنا لطاعته، وأن يجنبنا معصيته، وأن نكون ممن يتأدبون بآداب المسجد، وأن يجعلنا لها معظمين، ولحقوقها مؤدين، ولعمارتها فاعلين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
م/ن