أولاً: المقدمة:
حوت هذه السورة المباركة على قصرها مقاصد القرآن، ومحاوره الكلية، كما تضمنت أسراره وذخائره، ولهذا تسمى أم القرآن فهي تتناول أصول الدين وفروعه، ولذا قال القرطبي: "وفي الفاتحة من الصفات ما ليس لغيرها حتى قيل: إن جميع القرآن فيها وهي خمس وعشرون كلمة تضمنت جميع علوم القرآن"، وكما حوت العلوم فقد حوت الأعمال، وكما تضمنت دقائق المعرفة، فقد تضمنت ما يسمو بالبشر عقلاً وعاطفة، وقد شعرسيد قطب بهذه الظلال الوارفة فقال بصدق يقين وعاطفة: "إن في هذه السورة من كليات العقيدة الإسلامية، وكليات التصور الإسلامي، وكليات المشاعر والتوجهات ما يشير إلى طرف من حكمة اختيارها للتكرار في كل ركعة، وحكمة بطلان كل صلاة لا تذكر فيها"، وسنأخذ منحى وحيداً في النظر إلى مقاصدها الكلية، ومحاورها الإجمالية هو النظر إليها من جهة كونها الشفاء لكل ما يعتري القلب والعقل من الشدة واللأواء، وشدة الضنى والعناء، فبسم الله الرحمن الرحيم رب الأرض والسماء.
ثانياً: بعض ما ورد مما يدل على أنها الشفاء والرقية:
روى البخاري والترمذي واللفظ له عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم مروا بحي من العرب فلم يقروهم ولم يضيفوهم، فاشتكى سيدهم فأتونا فقالوا: هل عندكم دواء؟ قلنا: نعم ولكن لم تقرونا ولم تضيفونا فلا نفعل حتى تجعلوا لنا جعلاً. فجعلوا على ذلك قطيعاً من الغنم. قال: فجعل رجل منا يقرأ عليه بفاتحة الكتاب، فبرئ فلما أتينا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكرنا ذلك له قال: ((وما يدريك أنها رقية)) ولم يذكر نهيا منه وقال: ((كلوا واضربوا لي معكم بسهم))؟.
فقد حازت الفاتحة الشفاء المعنوي الذي ينور العقول والأذهان، والشفاء الحسي الذي يجلب العافية للأبدان، ولنتكلم عن بعض المحاور الشافية في هذه السورة المباركة.
ثالثاً: المحاور العامة الشافية في سورة الفاتحة الكافية:
المحور الأول: الفاتحة هي الشفاء بالثناء على الله والتملق بذكر رحمة أرحم الرحماء: ويدل على هذا منها الأربع الآيات الأولى (مع البسملة) فإنها كلها ثناء يقول الله تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (*) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (*) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (*) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}(الفاتحة:1-4)
المحور الثاني: الفاتحة هي الشفاء من الشرك والرياء {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}(الفاتحة:5)، وقدم العبادة على الاستعانة لأنها الغاية والمقصود، وبها مراقي الطمأنينة والصعود والسعود
المحور الثالث: الفاتحة هي الشفاء من العجب والكبرياء {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}(الفاتحة:5)، وأخر الاستعانة لأنها الوسيلة إلى الغاية التي هي العبادة، وبها يأخذ الإنسان أعظم الطاقة ويتزود أجمل الزاد للتغيير من حاله كما يجد بالعون أحسن الوفادة.
ووجه هذين المحورين أن تقديم المفعول على الفعل في كلا الجملتين يدل على الحصر والاختصاص ونفي ما سوى الله تعالى؛ إذ معناهما: نعبُدك وحدك ولا نعبد أحداً غيرك، ونستعين بك وحدك ولا نستعين بأحد سواك، أما لو قال: "نعبدك، ونستعين بك" لكان التعبير غير دالٍ على المنع من عبادة غيره ومن الاستعانة بسواه من حيث التركيب لهذه الجملة، وإن دل على المنع بأدلة خارجية، وقد أشار ابن القيم رحمه الله إلى أن ابن تيمية كان يستنبط نحواً من ذلك في هذه الآية، وبنى على ذلك كتابه الفريد (مدارج السالكين).
المحور الرابع: الفاتحة هي الشفاء بالراحة والفرحة بسلوك طريق السعداء: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (*) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}(الفاتحة:6-7) فالسعداء هم من سلك الصراط المستقيم من المنعم عليهم {مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}(النساء:69)
المحور الخامس: الفاتحة هي الشفاء من داء الغضب والاعتداء: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}(الفاتحة:7)، والمغضوب عليهم قوم علموا الحق ولكنهم لم يعملوا بما علموا، وأبرز مثال لهم اليهود، وتجتمع في المغضوب عليهم الصفات الآتية:
1) عدم العمل بالعلم بالتولي بالجسد والإعراض بالقلب كما قال تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ}(البقرة:83)
2) الهوى في الاختيار من أوامر الله مما يدل على الاستكبار كما قال تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ}(البقرة:87)
3) الحسد كما قال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ}(البقرة:109)
4) البغي والعدوان كما قال الله تعالى عن ذلك: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} (البقرة:90)
وعدم العمل بالعلم والحسد يسودان القلب، ويزيلان صفاءه فيقسو، كما قال تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}(البقرة:74)، ثم يجترئ القلب القاسي على الاعتداء حتى يعتدي على أعظم الخلق مكانة كالأنبياء كما قال تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ}(البقرة:87)
المحور السادس: الشفاء من داء الجهل والضلالة العمياء: {وَلَا الضَّالِّينَ}(الفاتحة:7) وهم قومٌ ساروا على عمى فاخترعوا لهم أدياناً وعباداتٍ وعقائد من تلقاء أنفسهم على غير علمٍ جاءهم من الله، وأبرز مثال لهم هم النصارى، ولذا روى الترمذي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((فإن اليهود مغضوب عليهم وإن النصارى ضلال))، وهذا لا يعني أن بعض المسلمين لا يدخلون في حيز الضلال أو الغضب عندما يتخلقون بأخلاق اليهود والنصارى، بل قد ورد النص على أن بعض المسلمين من يدخل في غضب الله كقاتل مؤمن تعمداً كما قال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}(النساء:93)، ومنهم من يدخل في حيز الضلال، ومن ذلك قول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كما في البخاري: ((فلا ترجعوا بعدي ضلالاً يضرب بعضكم رقَاب بعضٍ))، فتفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم هنا كان بضرب أبرز مثال على من دخل في معنى الآية، والتفسير بضرب المثال لا يقتضي الحصر في المقال.
رابعاً: التناسب والانتقال وجمال الاتصال:
1) الفاتحة مقدمة القرآن ولذا تسمى الفاتحة فهي فاتحة الكون، وفاتحة القلوب، وفاتحة صلاح النفوس، وسعادة المجتمعات، وفاتحة القرب من علام الغيوب، ولذا بدأت بالبسملة ليتحقق الإذن، والتبرك، والحماية، والاستعانة
2) ابتدأ فيها بالتعريف بنفسه حيث سمى نفسه (الله) ثم وصف نفسه العلية في البسملة بأنه الرحمن الرحيم فكأنه قيل: إذا كانت هذه أعظم صفاته التي ابتدأ بها فكيف يمكن أن يشكر، فيأتي الجواب:
3) {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}(الفاتحة:2)، فبين كيفية شكره بالحمد، وذكر سبباً آخر من أسباب حمده وهو تربيته للكون، فإذا تساءل السامع: التربية تقتضي فعل الأصلح، وهذا ربما اقتضى الحزم والشدة فهل هذه هي الصفة السائدة؟ فجاء الجواب:
4) {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}(الفاتحة:3)، فربما تساءل السامع: فهل الرحمة تقتضي عدم الحساب؟ فجاء الجواب:
5) {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}(الفاتحة:4) وذلك ليحذر السامع ولا يغتر بالرحمة، ويُعِدَ العُدة ليوم الحساب، فإذا شعر بالحذر طلب أن يقوم بالواجب عليه فتساءل: ما هو الواجب للنجاة يوم الحساب، فيأتي الجواب:
6) {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}(الفاتحة:5)، فلما علم العبد وجوب العبادة وشعر بضعفه وتنازع أهواء نفسه التي خلق عليها.. عند ذلك تساءل عن كيفية الإعانة، فجاء الجواب:
7) {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}(الفاتحة:5)، فلما شعر بالاطمئنان إلى إعانة الرحمن، هفت نفسه واشتاقت إلى سؤاله ثلاثة أسئلة: كيف نعرف العبادة الحقة أي ما هو سبيلها؟، وهل سار فيها سائر من قبل؟، وكيف نتوقى تزييف الشيطان لما يسمى عبادة؟ أي ما هي سبل الضلال في العبادة؟، فجاءه الجواب تاماً:
8) {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (*) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}(الفاتحة:6-7)
لماذا ختمت بآمين دون سورة البقرة وغيرها من السور التي تضمنت أدعية؟
لأنها كلها دعاء يتضمن الثناء، وقد أخرج الترمذي وحسنه والنسائي عَن جَابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء {الحمد لله}.
م/ن