يبين ربنّا أنّ الإنسان يرى ظاهراً من الحياة الدنيا ويعني ذلك انه لا يرى العمق وانه لا يرى جميع الظواهر وإنما بعض الظواهر وهذا الجهل هو أساس مشكلة البشر ومن هنا كان احد أهداف الأنبياء أنهم يزيدون من علم الناس ويبينون لهم الحقائق .فهم يريدون أن يرفعوا من مستوى فهَم الإنسان لكي يكتشف بنفسه الحقائق لأن الدنيا هي مختصرة جداً إذا ما قيست بالآخرة ولذلك في الحديث عن لحظة موت الإنسان (كأن الدنيا لم تكن) ولو لم يصل الإنسان إلى الكمال في الدنيا فإنه لن يستطيع أن يصل إلى ذلك في الآخرة لأن الدنيا (سوق ربح فيها قوم وخسر آخرون) والربح أو الخسارة بيد الإنسان نفسه ولكن الإنسان لا يعلم سوى ظاهر الحياة الدنيا.
كل انسان يجب أن تكون له رحلة للوصول الى الحقيقة وأن تكون لهذه الرحلة أولوية كبيرة لديه ولا يتحجج بالانشغال لأن الحياه بدون هذه الرحلة ستصبح مهزلة ولا معنى لها ... فما معنى أن يولد الانسان ويأكل ويشرب ويسعى في الحياه ويخوضها بين نجاحات واخفاقات ثم يموت ويتحلل وتنتهي القصة؟
هل هناك حياة أخرى بعد الموت؟ هل هناك حساب وجزاء وعقاب؟
ان كان هناك جزاء في حياة أخرى بعد الموت فلابد أن من سيحاسبة قد أعطاه الأدوات اللازمة للوصول لهذه الحقائق فمن غير المعقول أن يتم حساب انسان على شئ أو مطالبته بشئ وهو لا يملك الأدوات التي توصله لهذا الشئ؟
لذا يجب أولا أن يقتنع الانسان أنه لا يملك أدوات للوصول لأي حقيقة سوى قدرته الفكرية وفطرته التي وجد بها .حقيقة الدنيا كما هي حقيقة أنفسنا إن الله خلق جنة فيها منتهى الفضائل والكمالات وفيها كل ما تشهتي الأنفس وخلق النارعلى طرف النقيض ففيها كل شر وكل عذاب وعقاب ثم اخذ ضغثاً من هذا وضغثاً من ذاك وخلطهما فصارت الدنيا بل وصرنا نحن ..فالذي يغلب نوره على ناره يكون من أهلا لجنة والذي يكون ناره أكثر من نوره يكون من أصحاب النار.
ويقول ربنا :
(قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ في فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فيسَبيلِ اللَّهِ وأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ في ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) (13آل عمران)
يقول ربنا ( من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحاً فلأنفسهم يمهدون) ومعنى المهد هو تعديل الطريق للتقرب إلى الله .
هذا الإيمان يتصالح المسلم مع خالقه ونفسه والكون الذي من حوله، فهو مدرك أولا لحقيقة عبوديته لله تعالى وقائم بما يلزم عنها من واجبات، ومدرك ثانيا لقيمة نفسه كمخلوق أكرمه الله بتسخير الكائنات له، وأنه قد هبط إلى الأرض ليمتحن فيها قبل أن يعود إلى الجنة التي خُلقت له، فهو مكلف بإعمار هذه الأرض "هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها" [هود: 61]، ومكلف أيضا بترويض نفسه للأخذ من الشهوات ضمن قيود الشرع وحدود الحاجة.