إن نعمة الله علينا عظيمة بأن منَّ علينا أن هدانا للإيمان وكنا مسلمين، ومن أعظم نعمه علينا بأن جعل التمايز بين الحق والباطل واضحاً، فلا تميُّع بينهما، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلَّم-: ((قد تركتكم على البيضاء ، ليلها كنهارها ، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك . . .))(1)، لذلك كانت مخالفة الكفار وترك التشبه بهم من أعظم المقاصد العليا للشريعة الإسلامية،
وهذ المخالفة يجب أن تكون في الظاهر كما هو بداهة بالنسبة للباطن، فإن موجب الطباع ومقتضاها يحتم أنه إذا اشترك شخصان في نوع وصف بأن كان متشابهين ظاهراً فإن ذلك مظنة المودة، وهذا الأمر يشهد به الحس والتجربة فضلاً عن النصوص، ويؤدي إلى أمر عظيم من المودة والتآلف ثم إلى المحبة والمولاة التي تنافي الإيمان، وذلك أن الظاهر والباطن بينهما ارتباط ومناسبة، فإن ما يقوم به القلب من الشعور والحال يوجب أموراً ظاهرة، وما يقوم بالظاهر من سائر الأعمال يوجب للقلب شعوراً وأحوالاً، ذلك أن المشابهة في الظاهر تورث تشاكلاً وتناسباً بين المتشابهين، يقود إلى موافقة ما في الأخلاق والأعمال، وهذا أمر محسوس، فمن لبس ثياب أهل العلم وجد من نفسه نوع انضمام إليهم، ومن لبس ثياب الجند المقاتلة يجد من نفسه تخلقاً بأخلاقهم وتطبعاً بطباعهم، وكل ما ذكرت أعلاه حاصل لا محالة إلا أن يمنع من ذلك دين أو غرض خاص(2).
وحديثنا في هذه المرة عن مسألة مهمة، وجدت كثيراً من الشباب قد غفلوا عنها، وذلك أنه في شهر رمضان الفائت -تقبل الله منا ومنكم صيامه وقيامه- وأثناء انتظارى لصلاة القيام، كنت أجد بعضهم يتكئ على يسراه خلف ظهره، فأحببت أن أفيد بهذه المسألة نفسي أولاً ومن ثم إخواني، وذلك بنقل كلام العلماء والأئمة في هذه المسألة.
ونبدأ الآن بالحديث وطرقه، ثم نسوق ما تيسر من شرح العلماء بعده:
الحديث:
قَالَ أَبُو دَاوُد: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ بَحْرٍ ثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ ثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الشَّرِيدِ عَنْ الشَّرِيدِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ: مَرَّ بِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَنَا جَالِسٌ هَكَذَا -أَيْ وَقَدْ وَضَعْت يَدِي الْيُسْرَى خَلْفَ ظَهْرِي وَاتَّكَأْتُ عَلَى أَلْيَةِ يَدِي- فَقَالَ : أَتَقْعُدُ قِعْدَةَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ؟
غريب الحديث:
1- الأَلية- بفتح الهمزة- اللحمة التي في أصل الإبهام.
2- القِعدة -بالكسر- للنوع والهيئة.
3- ورد في حديث صحيح أنَّ المغضوب عليهم في سورة الفاتحة هم اليهود(3).
رجال الحديث:
1- علي بن بحر: ثقة في صحيح البخارى تعليقاً وأبو داود والترمذي.
2- عيسى بن يونس: وهو ثقة أخرج له أصحاب الستة.
3- ابن جُريج: ثقة أخرج له أصحاب الستة.
4- ابراهيم ابن ميسرة: ثقة أخرج له أصحاب الستة.
5- عمرو بن الشريد: ثقة أخرج له أصحاب الستة والترمذي في باب الشمائل.
6- الشريد بن سويد: وهو صحابي -رضي الله عنه-، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، والترمذي في كتاب الشمائل والباقون(4).
مظان الحديث:
والحديث صحيح، رواه أبو داود في كتاب الأدب 4848، وأحمد في بداية مسند الكوفيين من حديث الشريد بن سويد الثقفي -رضي الله عنه-، وفي صحيح الترغيب والترهيب المجلد الثالث كتاب الأدب وغيره رقم 3066، وفي مشكاة المصابيح المجلد الثالث أيضاً كتاب الآداب برقم 4730، وفي رياض الصالحين رقم 824(5)، وابن مفلح في الآداب الشرعية، وساقه الشيخ الألباني مع غيره في جلباب المرأة وذلك أثناء كلامه على الزي الذي يبتعد فيه المسلم والمسلمة عن التشبه.
فقه الحديث:
قال صاحب عون المعبود:
" قوله: ((وأنا جالس هكذا)) :
المشار إليه مفسر بقوله:
((وقد وضعت يدي اليسرى خلف ظهري واتكأت على ألية يدي)) : أي اليمنى والألية بفتح الهمزة اللحمة التي في أصل الإبهام.
((فقال: أتقعد قعدة المغضوب عليهم؟)) : القِعدة بالكسر للنوع والهيئة.
قال الطيبي: والمراد بالمغضوب عليهم اليهود.
قال القاري: في كونهم هم المراد من المغضوب عليهم ههنا محل بحث؛ وتتوقف صحته على أن يكون هذا شعارهم, والأظهر أن يراد بالمغضوب عليهم أعم من الكفار والفجار المتكبرين المتجبرين ممن تظهر آثار العجب والكبر عليهم من قعودهم ومشيهم ونحوهما, نعم ورد في حديث صحيح أن المغضوب عليهم في سورة الفاتحة هم اليهود انتهى. والحديث سكت عنه المنذري." اهــ
قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله تعالى- شارحاً لهذا الحديث في كتاب "رياض الصالحين"(6):
" لا يكره من الجلوس إلا ما وصفه النبي -صلى الله عليه وسلَّم- بأنه قعدة المغضوب عليهم، بأن يجعل يده اليسرى من خلف ظهره ويجعل بطن الكف على الأرض ويتكئ عليها، فإن هذه القعدة وصفها النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم-بأنها قعدة المغضوب عليهم.
أمَّا لو وضع اليدين كلتيهما من وراء ظهره واتكأ عليهما فلا بأس.
ولو وضع اليد اليمنى فلا بأس.
إنما التي وصفها النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنها قعدة المغضوب عليهم؛ أن يجعل اليسرى من خلف ظهره ويجعل باطنها -أي أليتها- على الأرض، ويتكئ عليها؛ فهذه هي التي وصفها النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنها قعدة المغضوب عليهم." اهـ
قال الشيخ المحدث عبد المحسن العباد -حفظه الله- في شرحه لسنن أبي داود:
" كما روى أبو داود في باب الجلسة المكروهة، باب في الجلسة المكروهة.
والمكروه -يعني- قد يراد به المحرَّم وقد يراد به ما هو مكروه للتنزيه، ولكن كونه جاء في الحديث جلسة المغضوب عليهم،دلَّ على التحريم، وأنَّ هذا يدل على التحريم.
أولاً: في حديث الشريد بن سويد -رضي الله عنه- أنه قال: ((مرَّ بي رسول الله -صلى الله عليه وسلَّم- وقد وضعت يدي اليسرى خلف ظهري، واتكأت على ألية يدي...)).
((واتكأت على ألية يدي)): ذكر في عون المعبود تفسيره أنَّه جعل يده اليسرى خلف ظهره، واتكأ على ألية يده اليمنى، والمقصود بالألية هو ما كان من الراحة من جهة الإبهام، هذا يقال له ألية اليد.
ويحتمل أن يكون المقصود [بالحديث] أنَّ كل ذلك يتعلق باليد اليسرى، وأنَّه جعلها وراء ظهره، وأنه جعل أليتها متكأًً عليها، أي جعل الراحة التي من جهة الإبهام وليست التي من جهة الخنصر.
((قال أتقعد قِعدة المغضوب عليهم؟)): الاستفهام إنكار . . .(7)" اهـ
ثم سُئل الشيخ العباد: " فعلى هذا تكون الجلسة لو وضع يده اليمنى فقط خلف ظهره؟
الشيخ مجيباً: والله، أقول الإنسان -يعني- لو يبتعد عن هذا، أنا ما أعرف يعني شيئاً يدل عليه، ولكن الشئ الذي فيه شبهة يبتعد عنه الإنسان." اهـ
هذا ما تيسر من النقول من العلماء، فأرجو أن تكون الفائدة قد وصلت، والنفع قد عمَّ، هذا فما أصبت فيه فمن الله، وما أخطأت فيه فمن نفسي ومن الشيطان، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
م/ن