الأعتكاف وبيان بعض أحكامه
إن في العبادات التي شرعها الله لعباده المؤمنين حكما عظيمة ، وبحسب إدراك المرء لهذه المقاصد التشريعية من الرب الرحيم تكون استفادته ومبادرته للأعمال الصالحة . فليس أخو علم كمن هو جاهل .
وجماع ذلك أن المدار في الأعمال على القلب ، وأكثر ما يفسد القلب الملهيات والشواغل التي تصرفه عن الإقبال على الله عز وجل من شهوات المطاعم والمشارب والمناكح وفضول الكلام وفضول النوم وفضول الصحبة وغير ذلك من الصوارف التي تفرق أمر القلب .
فشرع الله تعالى قربات تحمي القلب من غائلة تلك الصوارف كالصيام مثلا الذي يمنع الإنسان من الطعام والشراب والجماع في النهار فينعكس ذلك الامتناع عن فضول هذه الملذات على القلب فيقوى في سيره إلى الله .
وكما أن الصيام درع للقلب يقيه مغبة الصوارف الشهوانية من فضول الطعام والشراب والنكاح فكذلك الاعتكاف ينطوي على سر عظيم وهو حماية العباد من أثار فضول الصحبة .
فإن الصحبة قد تزيد على حد الاعتدال فيصير شأنها شأن التخمة بالمطعومات والمشروبات لدى الإنسان , وفي الاعتكاف أيضاً حماية للقلب من جرائر فضول الكلام وفيه كذلك حماية من كثرة النوم ، فإلى مزيد من التفصيل في معنى الاعتكاف وبيان بعض أحكامه .
الاعتكاف لغة : لزوم الشيء ، وحبس النفس عليه برا كان أو غيره . واعتكف لزم المكان ومنه ] يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُم [ (الأعراف : 138) .
الاعتكاف شرعا : لزوم المسجد والإقامة فيه بنية العبادة لله تعالى على صفة مخصوصة .. وهو مشروع مستحب باتفاق أهل العلم ، قال الإمام أحمد فيما رواه عنه أبو داود : ( لا أعلم عن أحد من العلماء إلا أنه مسنون ) ..
وهو قربة و طاعة ، قال الله تعالى : ] وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [ ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوما وقد اعتكف أزواجه وأصحابه معه ومن بعده .
أقسام الاعتكاف :
أ- مسنون : وهو ما تطوع به المسلم تقربا إلى الله وطلبا لثوابه . ويرى بعض أهل العلم أنه يتأكد الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان لما تقدم . من مداومة الرسول صلى الله عليه وسلم عليه .
ب - واجب : إذا نذر الاعتكاف فيلزمه ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " من نذر أن يطيع الله فليطعه " ، وعن عمر رضى الله عنه أنه قال يا رسول الله إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " أوف بنذرك " .
زمانه :الاعتكاف الواجب يؤدي حسب ما نذره وسماه الناذر ، فإن نذر يوما أو أكثر وجب الوفاء بما نذره .. والاعتكاف المستحب ليس له وقت محدد ، فعن يعلى بن أمية قال : إني لأمكث في المسجد ساعة ما أمكث إلا لأعتكف وآكده في العشر الأخير لمداومة النبي صلى الله عليه وسلم إلى وفاته عليه والاعتكاف في رمضان أفضل وآكد لفعله عليه السلام .
شروط صحته : ستة شروط :
1- النية .
2- الإسلام .
3- العقل .
4- التمييز .
5- عدم ما يوجب الغسل .
6- كونه بمسجد .
ويزاد في حق من تلزمه الجماعة ( أن يكون المسجد مما تقوم فيه الجماعة ) لأن الجماعة واجبة واعتكاف الرجل في مسجد لاتقام فيه الجماعة يفضي إلى أحد أمرين .. إما ترك الجماعة الواجبة وذلك لا يجوز ، وإما خروجه إليها فيتكرر ذلك منه كثيرا مع إمكان التحرز منه وذلك مناف للاعتكاف .
الجمع بين الصوم والاعتكاف :
المعتكف إن صام فحسن ، وإن لم يصم فلا شيء عليه . واشتراط الصوم في الاعتكاف نقل عن ابن عمر و ابن عباس وقد روي عن علي و ابن مسعود وعن ابن عباس أنه ( ليس على المعتكف صوم إلا أن يوجبه ) .. قال الإمام الشوكاني ( وهذا هو الحق لاكما قال ابن القيم أن الراجح الذي عليه جمهور السلف أن الصوم شرط في الاعتكاف ) .
ما يباح للمعتكف :
1- خروجه من معتكفة لتوديع أهله كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع صفية .
2- ترجيل شعره وحلق رأسه وتقليم أظفاره وتنظيف اليدين من الشعث والدرن ولبس أحسن الثياب والتطيب بالطيب .
3- الخروج للحاجة التي لابد منها لقول عائشة رضى الله عنها : " وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان " وقال ابن المنذر : ( أجمع العلماء على أن للمعتكف أن يخرج من معتكفة للغائط والبول ) .
4- له أن يأكل ويشرب في المسجد وينام فيه . كما أن له أن يعقد العقود فيه كعقد النكاح وغيره .
مبطلات الاعتكاف : يبطل الاعتكاف بفعل شيء مما يلي :
1- الخروج من المسجد لغير حاجة عمدا وإن قل .
2- الردة .
3- ذهاب العقل .
4- الحيض .
5- النفاس .
6- الوطء لقوله تعالى : ] وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المَسَاجِدِ [ ، ولا بأس باللمس بدون شهوة ، فقد كانت إحدى نسائه صلى الله عليه وسلم ترجله وهو معتكف .
تنبيهات حول الاعتكاف :
التنبيه الأول : أن بعض الباحثين ذهبوا إلى أنه لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة : المسجد الحرام ، و المسجد الأقصى ، و مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ، والصواب أن الاعتكاف جائز في كل مسجد تصلي فيه الفروض الخمسة قال تعالى : ] وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المَسَاجِدِ [ .. فدل عموم قوله تعالى : ] فِي المَسَاجِدِ [ على أنه جائز في كل مسجد ، ويستحب أن يكون في مسجد جامع .
التنبيه الثاني : أن بعض الناس يعدون الاعتكاف فرصة للخلوة ببعض أصحابهم وأحبابهم وتجاذب أطراف الحديث معهم وهذا ليس بجيد .
التنبيه الثالث : أن بعض الناس يترك عمله ووظيفته وواجبه المكلف به لكي يعتكف ، وهذا تصرف غير سليم ، إذ ليس من العدل أن يترك المرء واجبا ليؤدي سنة ، فيجب على من ترك عمله الوظيفي واعتكف أن يقطع الاعتكاف ويعود إلى عمله .
هذا والله تعالى أعلى وأعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .