بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العـليم الحـكيم اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنـا بما علمتنا، وزدنا علـماً، وأرنا الحق حـقاً وارزقنا اتباعه، وأرنـا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الأخوة الكرام:
كلمة قيمة لابن القيم، وهو من كبار علماء المسلمين، وقد ذكرتها مرات عديدة دون أن أشرحها، لكنني شعرت أنني بحاجة أنا وإياكم إلى شرحها في هذا الدرس، يقول ابن القيم رحمه الله تعالى:
عشرة ضائعة لا ينتفع بها.
وقبل أن أذكرها مفصلةً وأشرحها أقول: الإنسان يحب الربح، وتؤلمه الخسارة، يحب أن يجد مبتغاة، ويؤلمه أن يضيع عنه، يحب أن يربح، لذلك من هذا المنطلق قال الله عز وجل:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) ﴾
(سورة الصف )
خاطبنا بمفهوم تجاري، هذه التجارة الرابحة أرباحاً طائلة رأس مالها.
﴿تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11)﴾
(سورة الصف )
الربح الطائل:
﴿يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)﴾
(سورة الصف )
تـجارة، أيـة تجارة لـها رأس مال ولـها مبيع، فإذا كان الفرق كبيراً جداً بين الكلفة وبين المبيع فهذه تجارة رابحة، يعني في عالم التجارة اليوم يقدر الربح بثلاثين بالمئة وهو ربح كبير، بينما أكثر الأرباح عند بعض التجار خمسة أو ستة، أو ثمانية بالمئة، ومع الاحتكارات فالربح مائة بالمائة أحياناً، لكنما سمعنا بربح مليار بالمئة، وما سمعنا ألف مليار مليار مليار مليار حتى ينقطع النفس بالمئة فأنت والله إذا تاجرت مع الله فربحك ليس له حد، يعني اللانهاية فالعـقل البشري يصعب عـليه أن يتصورها: اللانهاية، يعني رقـم واحد في الأرض وأصفار متتالية إلـى الشـمس لمسـافة 156 مليون كيلو متر، وبكل ميليمتر صفر، فهذا الرقم الذي يصعب أن يدركه الإنسان لو أننا نسبناه إلى اللانهاية كان صفراً، عطاء الله مستمر، خالدين فيها أبـداً، الدنيا محـدودة، ثمانين سنة، أو سـبعين أو ستين، أو أكثر أو أقل، يعني كـم صلاة صليتها ؟ كم درساً حـضرته ؟ كم عـمرة عملت ؟ كم فقير سـاعدته، كله محدود معدود، لكن عطاء الجنة إلى أبد الآبدين.
فالإنسان في الأصل يحب التجارة، ويحب الربح، فربنا عز وجل خاطبنا بمفهوم تجاري، قال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾
تـجارة لها كلفة، ولها ربح، كلفتها محدودة وربحهـا غير محدود، لذلك أذكى تاجر على الإطلاق هو الذي يتاجر مع الله، وأحمق إنسان هو الذي يستغني عن فضل الله، ويطلب الأجر المادي.
حدثني أخٌ قصة لعلي ذكرتها لكم، إنسان مقطوع بسيارته مع أهله بطريق، في أحد أيام الجمع، نساؤه كلهن محجبات، انقطع لأنه يحتاج إلى رافعة لإصلاح عجلة السيارة، الطريق بداية صعود شديد، فكل السيارات تأخذ عزماً من أجل أن تصعد، وقف ساعة ساعة ونصف، أو ساعتين، ولا أحد يقف، أخيراً وقف شخص، بعد انتظار ساعتين، فطلبوا منه رافعة، فقدمها لهم، وقال لي الأخ المقطوع: بقيت أحدث نفسي ببطولته وبمروءته، وبرحمته، وبإيمانه، وبنجدته، وبأخـلاقه العالية، طيلة إصلاح سيارتــي لكن بعد ما انتهى من إصلاح العجلة، قال له اسمح لي بخمس ليرات، قال له صاحب السيارة، المقطوع، والله لو طلبت مئة ليرة لأعطيتك، والقصة قديمة كثير بالستينات، لكن ليتك لم تطلب هذا المبلغ، وليتك كنت تتاجر مع الله عز وجل، لكان ربحك عظيماً، لكنه أخذ ربحه في الدنيا، فهذه حماقة حقاً.
ملك قال لمعلم، درّس ابني، وأنا أحاسبك، فالملك لا يعطي أقل من بيت، هذا أقل عطاء بيت أو سيارة، أو كلاهما، فهذا المعلم أفقه محدود جداً، قال له: يا جلالة الملك: علمتك ثمانية دروس، و الدرس بخمسمئة ليرة، قال له: تفضل، ما عرف أن الذي سيكافئه ملك فحينما تتاجر مع أذكى تاجر شيء، وحينما تتاجر مع الناس فالخسارة محققة أو الربح ضئيل، وقد يكون هناك الأخطار كثيرة جداً.
درس اليوم كلمات بليغات قيمات لابن القيم رحمه الله تعالى يقول:
عشرة أشياء ضائعة لا ينتفع بها:
أول شيء: دققوا الآن، علمٌ لا يعمل به، لا قيمة له إطلاقاً إن حصّلت العلم، وجلست في مجالس العلم، وكتبت، وحفظت، وأديت امتحاناً، لكنك هذا العلم لم تطبقه، إذاً علم ضائع، لا قيمة له، بالعكس كلما تعلمت شيئاً ولم تطبقه كان حجة عليك، لا حجة لك، فالإنسان لا يقيّم بقدر ما يعرف، يُقيّم بقدر ما يطبق، وقيمة الإنسان في تطبيقه لعلمه والله عز وجل يقول:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)﴾
(سورة الصف )
حدثنا أخ، قال لي: في مدرسة من المدارس الشرعية، أستاذ له باع في التدريس، ألقى درساً حول التواضع، وقال لي شيء رائع، ما ترك شيئاً من الآيات، والأحاديث، وأقوال الصحابة، والقصص الهادفة، بلغة فصيحة وبمنهج واضح، بتسلسل، بترتيب، بأدلة، قال لي درس مذهل، فلما انتهى الدرس جلسنا في غرفة المدرسين فجلس بكبر لا يحتمل، وبعجرفة لا تطاق، وبازورار عن الخلق، قد لا يرد السلام، علماً بأن حديثه كان على التواضع وأنا أقول لكم بكل صراحة وبكلمة قاسية جداً، ليس كل إنسان يخلو من ازدواج شخصية، قد يكون الرجل إنساناً واعياً، وعنده ازدواج شـخصية، فالـذي يقوله في واد، والذي يفعله في واد آخر، كل إنسان يجد لذة في الحديث عن القيم حتى أقل الناس أخلاقاً، فالحديث ما له قيمة، ونحن لا نتقدم إلا إذا قيّمنا الإنسان من عمله أما أن تقيمه من كلامه فلا يصح فقد يكون أسوأ إنسان على الأرض و يتحدث بالقيم، و الدليل، ماذا قال فرعون ؟
﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)﴾
(سورة غافر )
فرعون الذي قال:
﴿فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)﴾
(سورة النازعات )
الذي ذبح أبناء بني إسـرائيل، واستحيا نساءَهم، وكان طـاغية من أكبر من الطغاة في العالم، قال: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)﴾
فالمعنى أن كل إنسان يحكي بالقيم، والقضية سهلة، أما الفرز الدقيق لما تفعل لا لما تقول.
فهذا العلم الذي لا يعمل به ضائع لا قيمة له، يعني إن لم تفكر في تطبيق ما تسمع وفر وقتك، جهد ضائع، وقت ضائع، مشقة ضائعة يعني طريق طويل والثمرة صفر، فهو علم لا يعمل به، لذلك قالوا: الورع حسن لكن في العلماء أحسن، والتوبة شيء حسن لكن في الشباب أحسن والحياء حسن لكن في النساء أحسن، والعدل حسن لكن في الأمراء أحسن والتواضع حسن لكن في الأغنياء أحسن.
الآن: عمل، لكنه عمل لا إخلاص فيه، فهو ضائع أيضاً.
﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً (18)﴾
(سورة الإسراء)
عبدي أنت تـريد وأنا أريد، فإذا سّلمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد وإن لم تسلم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد، ثم لا يكون إلا ما أريد، علم لا يعمل به فهو ضائع.
الآن: عـمل لا إخلاص فيه يؤتى يوم القيامة بأناس لهم أعمال كالجبال فيجعلها الله هباءً مـنثورا قالوا يا رسـول الله: جلهم لنا، والله شيء مخيف، قال: ((إنهم يصلون كما تصلون، ويأخذون من الليل كما تأخذون ولكنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها ))
معناها لا إخلاص عندهم، بل مظاهر، إنسان هدفه أن ينتزع من الآخرين إعجابهم، أن يركز له مكانة اجتماعية عالية، يتظاهر بشيء، هو بعيد عنه في الحقيقة، علم لا يعمل به شيء ضائع عمل لا إخلاص فيه جهد ضائع.
الآن: عمل لا اقتداء فيه فهو ضائع، كذلك العمل كما تعلمون لا يقبله الله عز وجل إلا بشرطين، إلا إذا كان خالصاً وصواباً، خالصاً ما ابتغي به وجه الله، وصواباً ما وافق السنة، لا يكفي أن أقول: أنا نيتي طيبة، أعمل حفلة غنائية ساهرة حتى اجعل ريعها لدار الأيتام، هذا العمل، تبدو النية طيبة لكنه غير صواب، يانصيب خيري مثلاً، حفلة غنائية ساهرة يرصد ريعها للمساكين والفقراء والمحتاجين، دائماً دقق وتمعن: العمل يجب أن يحوز على شرطين، على نيته الطيبة، و الإخلاص فيه، وعلى موافقته للسنة، وإلا لا قيمة له، إذاً هناك علم لا يعمل به، وعمل لا إخلاص به وعمل ليس فيه اقتداء بسيد الرسل.
﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾
(سورة آل عمران )
"مالٌ وفير لا ينفق منه ". وهذه من العشر الضائعة.
﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) ﴾
(سورة التوبة )
هنا تفصيل لطيف، قالوا: هذا المال الذي لا ينفق منه، لا يستمتع به جامعه في الدنيا، بخيل لأنه، عاش فقيراً ليموت غنياً، ولا يقدمه أمامه إلى الآخرة، لم ينتفع به في الدنيا لأنه كان بخيلاً، ولم ينتفع به في الآخرة لأنه ما قدم منه شيئاً لله عز وجل، فهذا المال الضخم قد يكون وبالاً على صاحبه، و الأغرب من ذلك قد يدخل ورثةُ غنيٍ الجنة بمال مورثّهم، ويدخل صاحب المال النار بماله، الذي جمعه وجهد في جمعه وتكديسه دخل النار به، لأنه جمعه من حرام، والذي ورثه، ورثه حلالاً، فأنفقه في طاعة الله فدخل الجنة، لذلك قالوا أندم الناس رجلان، حقاً أندم الناس على الإطلاق رجلان، رجل غني دخل ورثته بماله الجنة ودخل هو بماله النار، وعالم دخل الناس بعلمه الجنة، طبقوا كلامه فاستفادوا، فسعدوا، فاستحقوا الجنة، ودخل هو بعلمه النار، فهو اتخذ العلم حرفة، عَلِمَ ولم يعمل، هو كفتيل الشمع احترقت وأضاءت للآخرين وهذا المثل ذكره النبي عليه الصلاة والسلام، كالفتيل يحترق ليضيء للآخرين، لذلك مرة فتحت كتاباً فوجدت فيه أربعة أدعية تأثرت بها تأثراً كبيراً، أربعة أدعية.
الدعاء الأول: اللهم إني أعوذ بك أن يكون أحد اسعد بما علمتني مني، يعني أن ادرس وأتعلم واشرح الآية شرحاً دقيق، وأبين أبعادها وملابساتها، ومفهومها العام، ومفهومها الخاص، خلفياتها، الأحكام الشرعية منها، و الذي استمع مني هذا الشرح طبقه، فسعد بهذه الآية والذي شرح هذه الآية ما طبقها فشقي بنفسه، اللهم إن أعوذ بك أن يكون أحد أسعد بما علمتني مني.
الدعاء الثاني: اللهم إني أعوذ بك أن أقول قولاً فيه رضاك أطلب به أحداً سـواك، كلام حق، لكن مـا قيل هذا الكلام لوجـه الله، قيل لاستجداء العطف والإحسان، أو قيل لاستجداء الأموال، أو قيل لانتزاع الإعجاب، أن أقـول قولاً فيه رضاك ألتمس به أحداً سواك، هذه الثانية.
الدعاء الثالث: اللهم إني أعوذ بك أن أتزين للناس بشيء يشينني عندك، يعني يوم الجمعة يـلبس كلابية بيضة، والمسـواك بالجيب والمسـبحة بيد والمصحف بالـيد الثانية، وقد وضع طـاقية، على رأسه وتعطر بالمسـك وغدا إلى الجمعـة، والله شيء جميل، عطر وجبة ولفة وطاقية ومسك ومسواك ومسبحة كلُّ كامل ومصحف بالجيبة، وأوراد بالطريق، أين كان سهران البارحة ؟ أين كنت ؟ ومع من ؟ أن أتزين للناس بشيء يشينني عندك، هذه الثالثة.
الدعـاء الرابـع: اللهم إني أعوذ بك أن أكون عبرة لأحد من خلقك، فلا أكون أنا قصة للناس، الناس يتسلون بقصتي، ويستفيدون منها، ويتعظون فيها.
إذاً عـلم لا يعمل به، ضائع، قيمته صفر، عمل لا إخلاص فيه ضائع، قيمته صفر، عمل لا يطابق السنة، لا اقتداء فيه ضائع، قيمته صفر.
الآن: مال لا ينفق منه، فلا ينتفع به جامعه في الدنيا، ولا يقدمه أمامه للآخرة.
الآن: قلب فارغ من محبة الله، قلب متصحر، بحياته كلها ما بكي بحياته ما خشع، في حياته كلها ما اقشعر جلده، ما وجل قلبه، مـا ذرفت عينه دمعة، محبةً لله، أو خـوفاً منه، أو شوقاً إلى لقائهِ، أبداً، عواطفـــه كلها أرضية، إعجابه بلاعبي الكرة مثلاً، بالممثلين والممثلات الأحياء منهم والأموات، قلب فارغ من محبة الله والشوق إليه والأنس به يعني لا يتلو قرآن وإن تلاه، فلا شعور ديني ولا حركة وجل وخوف من الله، ولا تأثر، ولا خشية ولا اقشعر جلده، أبداً، كأنه يقرأ كلام البشر، يصلي وما لديه أية وجهةٍ لله عز وجل، يذكر الله ولا يتأثر، يجلس في مجلس علم ولا يتأثر أبداً، يحضر عقد قران فيه ابتهالات مؤثرة جداً، لكنه غائب عقلاً وذهناً وعاطفة.
هناك مصطلح جديد خطر في بالي مرة هو: سيراميك، لا يقبل ماءً، ولا صابوناً، وكل شيء يرفضه، صقيل جداً لأنه، لا يعبر عن شيء، ولا يقبل شيئاً، ولا يتأثر بشيء.
هذا الإنسان قلبه فارغ من محبة الله عز وجل، والشوق إليه والأنس به، يعني المؤمن الصادق له ساعة مع الله، له ساعة يخلو بها بالله، له مع الله اتصال، ابتهال، مناجاة.
قـال لي أخ زارني، وقد خرج من عند الطبيب النفسي إلى هذا الجامع مباشرة، يعاني من مشكلة نفسية، فالتقى بطبيب ليس مسلماً، سمع قصته بالتفصيل، فقال له الطبيب بالحرف الواحد، قال له أنت مشكلتك: الله زعلان منك، أنت شاعر بهذا الشيء ومتضايق، علاجك الوحيد، أن تقوم باتصال مع الله، وتستعطفه، وتترجاه، وتستغفره وتناجيه، مشكلتك مع الله، الطبيب غير مـسلم، لـكن من خلال القصة فهم أسـاس الشاب بأن علاقته مع الله طيبة، ثم اضطربت العلاقة، واهتزت، فشعر بالضياع، شعر أن الله لا يحبه، فاضطربت نفسه، فقال لي: أنت من باب أولى أن أتحكم عندك ما دامت القضية معلقة بالدين.
هذا القلب الفارغ من محبة الله والشوق إليه والأنس به، يعني مستحيل إلا أن يكون للإنسان مع الله أيام حلوة، جميلة، كل واحد متزوج يقضي كم يوم بالخطبة عسلاً أو أحلى من العسل. لي صديق تزوج وبعد العرس بقليل، أخذ زوجته إلى مكان جميل لمحافظة اللاذقية، قال لي: صار سرور غريب جداً، ثم صارت الحياة عادية، ثم صارت مشكلات بالبيت، فأحـياناً تنفعل و تقول له لم أر منك خيراً قط، يقول لها ولا أيام "كسب " فتخجل.( كسب بلدة جبلية في محافظة اللاذقية).
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما معناه: ((إنك إذا أحسنت إلى إحداهن الدهر كله، ثم رأت منك شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط.))
قلب فارغ من محبة الله والشوق إليه والأنس به.
بالمناسبة سأطرح عليكم هذه المشكلة التي أعاني منها كثيراً، فأي واحد من إخواننا سامحهم الله، يأتيه شخص ليسأله مثلاً عن بيت،يحولّه إليّ قائلاً: راجع الأستاذ راتب، والله شيء جميل فماذا قدمت أنت ؟ لقد أحرجتني عندما أرسلته إليّ ولما سمعت قصته وجدتها قصته مؤلمة والله، وما عندي إمكانيات وسـودت وجهي أمـامه، وحملتني ما لا أطيق، فأنت مـاذا قدمت ؟ لا تحمروا وجوه الآخرين، بإحراج كبير فلذلك لا تعـدها بطولة أن تحول الناس لجهة أخرى، هذه ليست بطولة إن كنت تقدر أن تساهم بشيء ساهم وإلا أسكت، والله لا يحل مشكلات النـاس إلا الله، شيء فوق طاقة البشر، فمثـلاً: أول ما أنشئ صندوق العافية، كان يلبي كل الحـاجات، ثم صـار يسدد نصف نفقات العملية، ثم صار يسدد ربع نفقات العملية، أعداد مخيفة، يعني حاجات الناس كبيرة جداً، لا يقوى إنسان على حلها وحده، إلا الله تبارك وتعالى.
الآن: ومحبة لا تتقيد برضاء المحبوب وامتثال أمره، فمن الممكن لإنسان أن يدعي المحبة، ويتباهى بالحديث عن محبته، لكن خاضوا بحار الهوى دعوى وما ابتلوا، لا تجده عند الأمر والنهي، لا تجده أبدا ً، ويدعي محبة الله:
﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾
(سورة آل عمران )
فالله عز وجل ما قبل دعوى محبته إلا بالدليل، محبة لا تتقيد برضاء المحبوب وامتثال أوامره.
تعصي الإله وأنت تظهر حبه هـذا لعمري في المقال شـنيع
لو كان حبك صادقاً لأطـعته إن المحب لمن يحب يطــيع
***
ووقت معطل عن استدراك ما فرط صاحبه، أو اغتنام برٍ وقربة وقت ضائع معطل، لاحظ الناس يقعدون بلقاءٍ ساعتين أو ثلاثاً، كلام فارغ كله، ما منه شيء، قد يكون حديثهم غيبة ونميمة، متابعة قصص سخيفة، فالمؤمن وقته ثمين جداً، وقته وعاء عمله، فالوقت الذي لا يستدرك والإنسان فيه ما فرط من عمل، أو اغتنام برٍ أو قربة، فهو وقت ضائع، أعتقد أن أثمن شيء تملك هو الوقت على الإطلاق، إنه وعاء عملك، والوقت هو رأس مالك الوحيد، الوقت هو أنت، أنت وقت، أنت بضعة أيام، كلما انقضى يوم انقضى بضع منك.
أنا أتمنى على كل أخ كريم أن ينفق وقته إنفاقاً استثمارياً، لا إنفاقاً استهلاكياً، أكلنا، ونمنا، وارتحنا، وعملنا نزهة، وسهرنا وانبسطنا، هذا كله استهلاك، ما له مردود مستقبلي، أما طلبنا للعلم فقد تسجل لنا وإن أنفقنا مالنا في سبيل الله تسجل لنا، علُمنا تسجل لنا، علمنا القرآن تسجل لنا، أمرنا بالمعروف تسجل لنا، نهينا عن المنكر تسجل، كل عمل تنتفع به بعد الموت هو عمل طيب، وكل عمل ينقضي أثره قبل الموت فهو عمل ضائع، ووقت معطل عن استدراك ما فرطت أو اغتنام برٍ أو قربة.
صار مجموعة هذه الأشياء، علم لا يعمل به، (واحد ) عمل لا إخلاص فيه، (اثنان ) عمل لا اقتداء فيه، (ثلاثة)، مال لا ينفق منه، (أربعة) قلب فارغ من محبة الله، (خمسة)، بدن معطل عن خدمة الخلق (ستة) محبة لا تتقيد برضاء المحبوب، (سبعة)، ووقت معطل عن استدراك ما فرطت، (ثمانية).
الآن: فكر يجول فيما لا ينفع، النبي الكريم دخل إلى المسجد فرأى رجلاً تحلق الناس حوله، قال من هذا ؟ قالوا نساب، قال: وما نساب ؟ سؤال للعارف، أسلوب تربوي، قالوا رجل يعرف أنساب العرب قال: (( ذلك علم لا ينفع من تعلمه ولا يضر من جهل به.))
قصة من ألف ومئتي صفحة، الشيخ والبحر، ملخصها أن الإنسان أقوى من كل عقبة توضع أمامه، في سفرتي الأخيرة رأيت هؤلاء الأمريكان بالطائرات يقرؤون كتباً سميكة جداً، لأول وهلة أحسنت الظن بهم مثقفون ثقافة عالية، ثم سألت ماذا يقرؤون، فعلمت أنها كلها قصص، كل واحد يحمل قصة مثل البلوكة أمامه، يقرؤها، والله بعض هذه الكتب حجمها ثمانية مئة صفحة تقريباً، من الحرف الصغير، انكبّوا بالطائرات بالاستراحات، بالمطارات يقرؤون، قصة حوادث، علاقات، ومحبة وخيانة زوجية، إلخ.
هذا فـكر معطل، أنت ممكن بهذا الفكر أن تسمو إلى الله عز وجل، ممكن أن تصل إلى أعل مرتبة، تستهلك هذا الفكر في موضوعات سخيفة، وفكر يجول فيما لا ينفع، يعني أنا لا أنتقد طلاب الـعلم، مثلاً، لكن إنسـان نال دكتوراه وقفها على شاعر غزلي فرضاً، جاهلي، يقول: بقي أثني عشر عاماً في تحضيرها، مثلاً، أمعقول: اثنى عشر عاماً وأنت تفكر بشعر جاهلي أو بالغزل وبقول أجمل دكتوراه بعمر بن أبي ربيعة، ما شاء الله، اطلب العلم النافع، اشتغل بعلم ممتع، هناك علم ممتع ونافع، قد تكون تحمل اختصاصاً نادراً له دخل كبير، الآن هناك عـلم ممتع نـافع مسعد، هو العـلم الديني، علـم ممتع نافع مسعد في الدنيا والآخرة، بالمناسبة، إذا الله عز وجل شرف إنساناً تعلق قلبه بالقرآن الكريم، وكلام سيد المرسلين، وقرأ قصص الصحابة الكرام، أعلام الأمة، والله عندئذٍ لا يستطيع أحد أن ينال من مستواه إطلاقاً.
والآن: وخـدمة من لا تقربك خدمته إلى الله، ولا تـعود عليك بـصلاح دنيـاك، أنت تخدم جهة، هذه الجهة لا تعرف الله، وخـدمتك لـها لا تنفعك عـند الله ولا في الدنيا ولا في الآخرة، فأنت يعـني ألعوبة بيدها مسخر لخدمتها، أضعت آخرتك في دنيا غيرك، هذا أندم إنسان على الإطلاق، من ضيع آخرته بدنيا غيره، خدمة بدون مردود، خدمة دون حمد ولا ثناء ولا شكر، وخدمة من لا تقربك خدمته إلى الله عز وجل يعني ممكن أن تخدم أخاً مؤمناً، يقول: الله يجزيك الخير، الله يجعل هذا العمل في ميزان حسناتك هذا حسن، ممكن أن تخدم مسجداً، فتقوم بإصلاحات فيه يقولون لك: الله يجزيك الخير، إن شاء الله هذا الجهد يكون نوراً لك في قبرك، ممكن أن تخدم أخاً بحاجة إلى خدمة، تحستب هذا عند الله، فهناك آلاف الخدمات التي ترتقي بهـا عند الله، أما أن تخدم إنسـاناً بعيداً عن الله، لا حـمداً ولا ثناء ولا شكوراً، استهلكك استهلاكاً رخيصـاً، هذه خدمة ضائعة، وقالوا من أعان ظالماً سلطه الله عليه، فالله يؤدبه على ذلك ويكون أول ضحية من ضحايا الذي خدمه، طيب، قال: خدمة من لا تقربك خدمته إلى الله ولا تعود عليك بصلاح دنياك، نعود ثانية لاستعراض هذه العشرة: علم لا يعمل به، عمل لا إخلاص فيه، عمل لا اقتداء فيه، مال لا ينفق منه، قلب فارغ من محبة الله بدن معطل عن خدمة الخلق، محبة لا تتقيد برضاء المحبوب، وقت معطل عن استدراك ما فرط الإنسان، فكر يجول فيما لا ينفع، خدمة من لا تقربك خدمته إلى الله.
الآن: وخوفك ورجاؤك لمن ناصيته بيد الله، مرة كنت في احتفال فألقى أحد الدعاة إلى الله كلمة أعجبتني، قال إنسان على وشك الموت جوعاً، و إنسان عظيم كريم محسن عطوف رحيم جاءه بطعام، كان على وشك الموت، يعني مغمى عليه، ولقّمه الطعام بيده بملعقة، ثم أن هذا استيقظ ووجد أنه قد أكل طعاماً طيباً، وجسمه شبع، فنهض ووجد ملعقة أمامه، قال لها شكراً لك أيتها الملعقة، أنا مدين لك بالفضل أيتها الملعقة، يا لك من ملعقة ما بعدها ملعقة، طبعاً الخطيب تكلم هذا تعقيباً على الأمطار الغزيرة، فقد قرأ بالصحف لقد رحمتنا السماء، شكراً لك أيتها السماء، ماذا في السماء ؟ ما فيها إلا الله عز وجل، فكل هذا المقال شكر للسماء، السماء ضحكت، والسماء أنجدت، والسماء أغاثت، والسماء قدمت، فقال: مثل هذا الإنسان الصحفي يشبه تماماً هذا الذي كاد أن يموت جوعاً فلما شبع رأى ملعقة أمامه فأخذ يثني عليها، ونسي الذي أطعمه الطعام بالملعقـــة، فهذا الذي تخاف منه هو نفسه بيد الله عز وجل، شيء مضحك، تخاف من إنسان بقبضة الله، خاف من الله عز وجل، وخوفك ورجاؤك لمن ناصيته بيد الله عز وجل وهو أسير في قبضته، ولا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً.
أيها الأخوة:
كلمات قيمات، عشرة أشياء ضائعة لا ينتفع بها: علم لا يعمل به عمل لا إخلاص فيه، عمل لا اقتداء فيه، مال لا ينفق منه، قلب فارغ من محبة الله، بدن معطل عن طاعة الله وخدمة عباده، محبة لا تتقيد برضاء الله تعالى، وقت معطل عن استدراك ما فرط أو اغتنام برٍ أو قربة فكر يجول فيما لا ينفع، خدمة من لا تقربك خدمته إلى الله، ولا تعود عليك بصلاح دنياك، خوفك ورجاؤك لمن ناصيته بيد الله، وهو أسير في قبضته، ولا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشورا.
قال: وأعظم هذه الاضاعات، إضاعتان، كنـا بعشرة والآن هناك إضاعتان خطيرتان، هـما أصل كل إضـاعة، إضاعة القلب، وإضـاعة الوقت، أخطر إضاعتين، إضاعة القلب وإضاعة الوقت، فإضاعة القلب من إيثار الدنيا على الآخرة، وإضاعة الوقت من طول الأمل.
مرة كنت جالـساً في مكان أنتظر، واثنـان إلى جانبي، قال أحدهما والله فلان هلكنا، حيرنا، بقينـا سـتة أشـهر نحاول أن نفهم منه أأحب أن تكون تدفئة البيت عن طريق تمديد خارجي، أو تمديد داخلي، قال الخارجي أكثر فاعلية، أما الداخلي أجمل، مخفي، لكنه يخاف أن يعمله داخلياً وتفسد الأنابيب مستقبلاً ويضطر أن يكسّر البلاط، قال له، صار له ستة أشهر في هذا الموضوع، ثم استقر رأيه على أن يجعله داخلياً، وبعد عشرين سنة لما تفسد الأنابيب يمدد خارجياً، ولا يكسّر البلاط، فهل هو ضامن أن يعيش عشرين سنة ؟ هذا كل الأمل يملأ نفسه ويشغلها.
ذات يـوم قال لي شخص ما يلي: أنوي أن أقدم طلب إعارة لبلد عربي كمدرس، في حين أنه يدير ثانوية وكنت أسمع له، قال: سأبقى بهذا البلد خمس سنوات، قلت له شيء جميل، ثم قال لي: عندما أعود: أتقاعد، وتحسب مدة الإعارة من خدماتي قلت له ممتاز، ثم قال: بعد أن أتقاعد أفتح محلاً لبيع الهدايا والتحف، وهذا عمل لا علاقة له بالتموين، قلت له والله شيء جميل ثم قال لي ويكون أولادي قد كبروا، فيعملون بالمحل، وأنا أشرف على المحل صباحاً كل يوم ساعة من الزمن، والعصر كذلك، وقعدت عنده ساعة ثم انصرفت مودعاً وفي بالمساء عندي كان درس بمدرسة أخرى وبينما كنت عائداً إلى بيتي، رأيت نعوته على الجدران، والله الذي لا إله إلا هو في اليوم نفسه، فما جاء المساء وإلا كان تحت أطباق الثرى، فهذا الذي يتلف القلب بطول الأمل، قال إذاً فأعظم هذه الإضاعات، إضاعتان، هما أصل كل إضاعة، إضاعة القلب، وإضاعة الوقت، قال واحد لن أموت إلا بعد زمن طويل، لم ؟ قال أنا أولاً وزني قليل، ونحيف، وأمشي كثيراً، ولا أدخن، وأكلي قليل وما أحمّل نفسي همّاً، وهذه أهم واحدة، فبعد أسبوع كان ميتاً الله وكيلكم، وإني لصادق، إذاً: أعظم هذه الإضاعات، إضاعتان، هما أصل كل إضاعة، إضاعة القلب وإضاعة الوقت، فإضاعة القلب من إيثار الدنيا على الآخرة، وإضاعة الوقت من طول الأمل، فاجتمع الفساد كله في اتباع الهوى وطول الأمل والصلاح كله في اتباع الهدى والاستعداد للقاء الله عز وجل.
أيها الإخوة:
أرجو الله سبحانه وتعالى أن ننتفع بهذه المواعظ، هي كلمات بليغات، عناوينها، علم، عمـل، مـال، قلب، بدن، محبة، وقت، فكر خدمة، خوف، عشرة أشياء ضائعة لا ينتفع بها، والآن فبالمقابل، يجب أن يكون العـلم معمولاً به، أن نعمل بما علمنا، وأن نخلص فيما عملنا وأن ننفق من أموالنا، وأن يكون قلبنا مفعماً بمحبة الله، وأن يكون بدننا في خدمة الخلق، و أن يـكون الوقت مملوءاً بالعبادات والأعمال الصالحة، والفكر في ذكر الرب، وخدمة أهل الإيمان، والخوف من الله وحده، هذا ملخص الكلمات.والحمد لله رب العالمين
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي