ينقسم الناس في تعاطيهم مع أمور الدنيا إلى أحوالٍ أربعة، لخَّصها النبي الكريم - صلوات ربي وسلامه عليه - في حديث عظيم من جوامع كلمه، فعن أبي كبشة الأنماري - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (أحدثكم حديثا فاحفظوه: إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالاً وعلمًا فهو يتقي فيه ربه ويصِلُ فيه رحمه ويعلم لله فيه حقًّا، فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علمًا ولم يرزقه مالاً فهو صادق النية يقول لو أن لي مالاً لعملت بعمل فلان، فهو بنيته، فأجرهما سواء، وعبد رزقه الله مالاً ولم يرزقه علمًا فهو يخبِط في ماله بغير علم لا يتقي فيه ربه ولا يصل فيه رحمه ولا يعلم لله فيه حقا، فهذا بأخبث المنازل، وعبد لم يرزقه الله مالاً ولا علمًا فهو يقول لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته، فوزرهما سواء) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
هذا الحديث الجامع لأنواع الناس وأحوالهم تجاه ما ينعم الله به عليهم في الدنيا، يستهله - صلى الله عليه وسلم - بكلمات تبعث على الاهتمام بما سيُقال، وتجعل السامعين يتطلعون لما سيذكره، حيث قال: (أحدثكم حديثا فاحفظوه)؛ ولذا ينبغي على دعاة الخير فعل ذلك في المواضع المهمة التي تستلزم الرعاية والعناية.
ثم يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (إنما الدنيا لأربعة نفر): أي إنما حال أهلها حال أربعة، اثنان عاملان، واثنان تبع لهما، فالثاني تبع للأول، والرابع تبع للثالث، وقد ذكر الدنيا - رغم أنها تشمل الدنيا والآخرة كما سيأتي - ليصبِّر الناس على طلب العلم، ويخبرهم أن العلم يجلب خيري الدنيا والآخرة، وأيضا فإن من طلب الدنيا بالعلم نال الدنيا وحازها، فالعلماء سلاطين غير متوّجين، والعامة تخضع لهم أكثر من خضوعهم للسلطان؛ لأن العلماء يملكون سلطان الحجة الذي يخضع له القلب، بينما السلاطين لا يملكون إلا سلطان اليد؛ الذي قد لا يخضع البعض له، وعلى كل حال فالناس لا يخرجون عن أحوال أربعة:
الأولى: عالم غني (عبد رزقه الله مالاً وعلمًا فهو يتقي فيه ربه ويصل فيه رحمه ويعلم لله فيه حقا، فهذا بأفضل المنازل)، يتخيّر الله تعالى من يرزقه المال أو من يرزقه العلم أو من يرزقه العلم والمال معا، فإذا رُزق العبد العلم والمال معا كانت تلك أفضل منزلة، وذلك لاقتران العلم بالعمل، لأنه سيعمل في ماله بعلمه.
وقد حثنا الله جل وعلا على العمل بالعلم، وذم من لا يعمل بعلمه، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتًا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} (الصف: 2-3)، وفي صحيح مسلم عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان ما لك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه , وأنهى عن المنكر وآتيه)، وسُئل سفيان الثوري: طلب العلم أحب إليك أو العمل؟ فقال: "إنما يراد العلم للعمل, فلا تدع طلب العلم للعمل, ولا تدع العمل لطلب العلم".
وقد دلت عبارة النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن بركة المال لا تكون إلا إذا أُنفق بشرطين: العلم بما ينفق من أبواب الخير، والإخلاص، وهذان شرطا العبادة: الإخلاص لله، وأن يكون العمل على بصيرة وعلم.
كما دلت العبارة على أن صلة الرحم من أعظم القربات، وأن من أسباب تقوية صلة الرحم: العون المادي، فقد يكون قريبك فقيرا فإعطاؤك له مما أعطاك الله يزيد الأواصر، كما أن طلبة العلم الفقراء هم أولى الناس بالعون، إذا كانوا غير قادرين لأن نفعهم يتعدى، وعلى دعاة الخير أن يكونوا أسبق الناس في هذا الأمر، ورحم العلم أبلغ من رحم القرابة.
كما ينبغي على العالم تعليم العلم وبذله لمن يستحقه، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (طلب العلم فريضة على كل مسلم، وواضع العلم عند غير أهله كمقلِّد الخنازير الجوهر واللؤلؤ والذهب) رواه ابن ماجة في سننه.
الثانية: عالم فقير (وعبد رزقه الله علمًا ولم يرزقه مالاً فهو صادق النية يقول لو أن لي مالاً لعملت بعمل فلان، فهو بنيته، فأجرهما سواء) ينفع الله تعالى بصاحب العلم أكثر مما ينفع بصاحب المال، لأن العلم غذاء للقلوب والأرواح، والمال غذاء للأبدان، وغذاء القلوب أعظم من غذاء البطون، وإذا صدق الإنسان في نيته فإن الله يثيبه على ذلك، ويكتب له الأجر كما لو فعل، وذلك أن النية الصادقة سبب في حصول الأجر وهي شرط لصحة الأعمال، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه) متفق عليه، وعن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال: سمعت رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقول في غزوة تبوك بعد أن رجعنا: (إن بالمدينة لأقواما ما سرتم مسيرا ولا هبطتم واديا إلا وهم معكم، حبسهم المرض) رواه الإمام أحمد، وكما أن النية تجعل المرء يحصل على أجر العمل إذا حيل بينه وبين العمل، فإنها أيضا تجعل العمل كبيرا وإن كان صغيرا، يقول عبد الله بن المبارك: "رُبّ عمل صغير تعظمه النية، ورب عمل كبير تصغره النية"، وقال سفيان الثوري: "كانوا يتعلمون النية للعمل، كما تتعلمون العمل".
فهذا الرجل تمنى أن يكون له مال كمال الأول وعلم كعلمه, حتى يؤدي حق الله فيهما, ولذا أُجِرَ على هذه النية الصالحة, قال يحيى بن أبي كثير: "تعلموا النية، فإنها أبلغ من العمل".
الثالثة: غني جاهل (وعبد رزقه الله مالاً ولم يرزقه علمًا فهو يخبط في ماله بغير علم لا يتقي فيه ربه ولا يصل فيه رحمه ولا يعلم لله فيه حقا، فهذا بأخبث المنازل)، وقد جعله النبي - صلى الله عليه وسلم - من أشر الناس لأنه سفيه لا يحسن التصرف في المال فيبدده ويضيعه, وقد نهى الإسلام عن إعطاء السفهاء الأموال, وأجاز الحجر على مال السفيه، قال تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا} (النساء: 5)، وكذا حرم الإسلام تبذير المال وإضاعته, قال تعالى: {وءات ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا * إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا} (الإسراء: 26-27)، وأوجه كثرة الإنفاق ثلاثة:
أولها: إنفاقه في الوجوه المذمومة شرعاً، فلا شك في منعه، وهو المقصود معنا في هذا النوع (لا يتقي فيه ربه ولا يصل فيه رحمه ولا يعلم لله حقا).
وثانيها: إنفاقه في الوجوه المحمودة شرعاً، فلا شك في كونه مطلوباً بالشرط المذكور في الحديث (يتقي فيه ربه ويصل فيه رحمه ويعلم لله فيه حقا).
وثالثها: إنفاقه في المباحات بالأصالة، كملاذّ النفس فهذا ينقسم إلى قسمين: أحدهما: أن يكون على وجه يليق بحال المنفق وبقدر ماله، فهذا ليس بإسراف، والثاني: ما لا يليق به عرفاً، وهو ينقسم إلى قسمين: أحدهما ما يكون لدفع مفسدة ناجزة أو متوقعة فهذا ليس بإسراف، والثاني ما لا يكون في شيء من ذلك، فالراجح أنه إسراف.
وزعيم هذه الطائفة المذمومة من الناس (قارون)، فقد آتاه الله مالاً ولم يؤته علما، قال الله عنه: {إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين * وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين} (القصص: 76-77).
الرابعة: فقير جاهل (وعبد لم يرزقه الله مالاً ولا علمًا فهو يقول لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته، فوزرهما سواء) دائما ما تكون سوء النية سبباً في حصول الوزر، فهذا الرجل وقع بجهله في سوء النية، فتمنى أن يكون له مالٌ مثل مال هذا الرجل الذي يخبط في ماله بغير علم, فلا يؤدي حق الله تعالى فيه؛ ولذا تحمَّل وزرًا على هذه النية السيئة، وليس هذا بظلم له، لأن الله تعالى علم من نيته أنه لو أُعطِي مثل صاحبه لأفسد وفسق، وأيضا لكونه لم يأخذ بالأسباب الموصلة للعلم ورفع الجهالة عن نفسه، نسأل الله أن يعافينا من ذلك، وأن يرزقنا النية الصالحة والعلم النافع والعمل الصالح.
م/ن