الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير الأنام والمرسلين وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد:
فقد قضينا لحظات جميلة مع بعض المشاهد من قصة آدم _ عليه السلام ، وأحببت في هذه الأسطر أن أحلق بالقلوب إلى مشاهد من قصة نبي الله سليمان _عليه السلام _ الذي آتاه الله ملكا لم يؤته أحدا قبله ، ولن يؤتيه أحدا بعده ، فقد علمه سبحانه منطق الطير والحيوان ، وسخر له الجن والشيطان ( يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات ) ، وسخر له ( الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب ).
فأقول وبالله أستعين : تفقد سليمان _ عليه السلام _ جنوده من الطير وغيرها كعادته، فلفت انتباهه أن الهدهد ليس في مكانه فقال ( مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين)، ثم توعده قائلا ( لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين ).
فمكث الهدهد ( غير بعيد ) ثم جاء إلي سليمان فقال له ( أحطت بما لم تحط به علما وجئتك من سبأ بنبأ يقين ), وهو أني ( وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم ) مزخرف بأنواع اللآليء والجواهر، والذهب والحلي الباهر، ولكني ( وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السموات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم ).
فلما سمع سليمان _ عليه السلام _ ما قاله الهدهد، قال ( سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين )، ثم دفع إليه كتابا ضمنه دعوتهم للإسلام والإنابة، والإذعان والطاعة، وقال له ( اذهب بكتابي هذا فألقه عليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون )، فأخذ الهدهد الكتاب وطار إلي قصر الملكة فألقاه عليها، ووقف جانب ينتظر الجواب، فلما رأت الكتاب عظمته جدا، وفزعت منه فزعا شديدا، وعلمت أن هذا أمر عظيم وخطب جسيم لابد أن تجمع له وزراءها وأكابر دولتها، فنادت بالاجتماع، فلما حضروا قالت لهم ( يا أيها الملؤا إني ألقي إلي كتاب كريم إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين )، ثم قالت ( أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون )، فأجابوها قائلين ( نحن أولوا بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين ) ، فلما سمعت ما بذلوه من الطاعة، وأظهروه من الاستطاعة، قالت: ( إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون )، و إني ( مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون )، فلما وصل الرسول إلى سليمان _ عليه السلام _ بالهدايا والتحف، قال لهم: ( أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون )، ثم قال لرسولها إليه و وافدها عليه والناس حاضرون: ( ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون )، فلما بلغتهم رسالته و وعيده، بادروا بالإجابة وخضعوا للسمع والطاعة، وأقبلوا عليه بصحبة الملكة، فلما علم بقدومهم قال لأهل مجلسه ( يا أيها الملاء أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك )، فلما فرغ من الكلام ( قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك ) إذا نظرت به إلى أبعد غاية ثم أغمضته، ( فلما رآه مستقر عنده ) في هذه المدة اليسيرة مع بعد المسافة، قال: ( هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم ).
ثم قال لمن حوله ( نكروا لها عرشها ) بالزيادة والنقصان ( لننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون ).
فلما جاءت مع قومها عرض عليها العرش وقيل لها ( أهكذا عرشك )، قالت ( كأنه هو )، لأنها متيقنة أن العرش قد خلفته باليمن، ولم يخطر ببالها أن أحدا يقدر على حمله إلى الشام بهذه السرعة.
ثم قيل لها بعد الاختبار: أدخلي الصرح، وكان سليمان _ عليه السلام _ جالسا على سريره، ( فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها )، قال لها: ( إنه صرح ممرد من قوارير)، وذلك أن الصرح بني من زجاج وعمل في ممره ماء فيه السمك وغيرها من دواب الماء، وجعل عليه سقفا من زجاج.
فلما رأت ما لم يخطر بالبال، ولا أحاط به الخيال من صرح جميل لم تر البشرية له مثيل، ومن جيش عظيم ليس له نظير، قالت: ( رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين )، فأسلمت وأسلم قومها معها.
وقيل: إن سليمان _ عليه السلام _ تزوجها، فالله أعلم بصحة ذلك.
فانظروا أحبتي في الله ما ترتب على يد الهدهد من الخير العظيم ، وكيف أنه غار على توحيد رب العرش الكريم
م/ن