الحديث المذكور : حديث صحيح ، متفق على صحته .
فروى البخاري (1469) ، ومسلم (1053) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " إِنَّ نَاسًا مِنْ الْأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُمْ ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ فَقَالَ : ( مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ ) .
ورواه الإمام أحمد (91) من طريق أخرى بلفظ : ( مَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ ، وَمَا أَجِدُ لَكُمْ رِزْقًا أَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ ) .
وإسناده حسن .
فقَوْله ( وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ ) قَالَ الْقُرْطُبِيّ : " ( مَنْ يَسْتَعِفّ ) أَيْ يَمْتَنِع عَنْ السُّؤَال , ( يُعِفَّهُ اللَّه ) أَيْ إِنَّهُ يُجَازِيه عَلَى اِسْتِعْفَافه بِصِيَانَةِ وَجْهِهِ وَدَفْع فَاقَته " .
وَقَالَ اِبْن التِّين : " مَعْنَى قَوْله ( يُعِفَّهُ اللَّه ) إِمَّا أَنْ يَرْزُقهُ مِنْ الْمَال مَا يَسْتَغْنِي بِهِ عَنْ السُّؤَال , وَإِمَّا أَنْ يَرْزُقهُ الْقَنَاعَة " .
الفتح" (11/304-305) .
وقال القاري في "مرقاة المفاتيح" (4/ 1311):
" ( وَمَنْ يَسْتَعفف ) " أَيْ: مَنْ يَطْلُبْ مِنْ نَفْسِهِ الْعِفَّةَ عَنِ السُّؤَالِ ، قَالَ الطِّيبِيُّ : أَوْ يَطْلُبِ الْعِفَّةَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ( يُعِفَّهُ اللَّهُ ) أَيْ يَجْعَلْهُ عَفِيفًا ، مِنَ الْإِعْفَافِ ، وَهُوَ إِعْطَاءُ الْعِفَّةِ ، وَهِيَ الْحِفْظُ عَنِ الْمَنَاهِي ، يَعْنِي : مَنْ قَنِعَ بِأَدْنَى قُوتٍ ، وَتَرَكَ السُّؤَالَ : تَسْهُلُ عَلَيْهِ الْقَنَاعَةُ ، وَهِيَ كَنْزٌ لَا يَفْنَى " انتهى .
وقال الشيخ ابن عثيمين :
" فمن يستعف عما حرم الله عليه من النساء : يعفه الله عز وجل.
والإنسان الذي يتبع نفسه هواها فيما يتعلق بالعفة فإنه يهلك والعياذ بالله ؛ لأنه إذا أتبع نفسه هواها ، وصار يتتبع النساء ؛ فإنه يهلك ، تزني العين ، تزني الأذن ، تزني اليد ، تزني الرجلين ، ثم يزني الفرج ؛ وهو الفاحشة والعياذ بالله .
فإذا استعف الإنسان عن هذا المحرم : أعفه الله- عز وجل- ، وحماه ، وحمي أهله أيضاً " انتهى من "شرح رياض الصالحين" (1/ 196) .
قَوْله : ( وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّه ) ، وفي رواية ( وَمَنْ اِسْتَكْفَى كَفَاهُ اللَّه ) .
قَالَ الْقُرْطُبِيّ : " قَوْله ( وَمَنْ يَسْتَغْنِ ) أَيْ بِاَللَّهِ عَمَّنْ سِوَاهُ , وَقَوْله ( يُغْنِهِ ) أَيْ فَإِنَّهُ يُعْطِيه مَا يَسْتَغْنِي بِهِ عَنْ السُّؤَال ، وَيَخْلُق فِي قَلْبه الْغِنَى ؛ فَإِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْس ".
الفتح" (11/304) .
وقال القاري في "المرقاة" (4/ 1311):
" ( وَمَنْ يَسْتَغْنِ ) أَيْ يُظْهِرْ الْغِنَى بِالِاسْتِغْنَاءِ عَنْ أَمْوَالِ النَّاسِ ، وَالتَّعَفُّفِ عَنِ السُّؤَالِ ، حَتَّى يَحْسَبَهُ الْجَاهِلُ غَنِيًّا مِنَ التَّعَفُّفِ ( يُغْنِهِ اللَّهُ ) أَيْ يَجْعَلْهُ غَنِيًّا ، أَيْ بِالْقَلْبِ " انتهى .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" أي: من يستغن بما عند الله عما في أيدي الناس ؛ يغنه الله عز وجل ، وأما من يسأل الناس ويحتاج لما عندهم ؛ فإنه سيبقي قلبه فقيراً - والعياذ بالله- ولا يستغني ،
والغني غني القلب ، فإذا استغني الإنسان بما عند الله عما في أيدي الناس ؛ أغناه الله عن الناس ، وجعله عزيز النفس بعيداً عن السؤال " .
انتهى من "شرح رياض الصالحين" (1/ 195) .
وعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ( الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى ، وَلْيَبْدَأْ أَحَدُكُمْ بِمَنْ يَعُولُ ، وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ ) فَقُلْتُ: وَمِنْكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: ( وَمِنِّي ) قَالَ حَكِيمٌ : قُلْتُ: لَا تَكُونُ يَدِي تَحْتَ يَدِ رَجُلٍ مِنَ الْعَرَبِ أَبَدًا " .
رواه الإمام أحمد ) بسند صحيح .
قال السندي رحمه الله : " قوله : فقلت : ومنك ، أي : لا ينبغي السؤال وإن سأل منك " انتهى من "حاشية المسند" (24/ 344) .
قَوْله : ( وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ ) ، قَالَ الْقُرْطُبِيّ : " ( وَمَنْ يَتَصَبَّرْ ) أَيْ يُعَالِج نَفْسه عَلَى تَرْك السُّؤَال وَيَصْبِر إِلَى أَنْ يَحْصُل لَهُ الرِّزْق ( يُصَبِّرهُ اللَّه ) أَيْ فَإِنَّهُ يُقَوِّيه وَيُمَكِّنهُ مِنْ نَفْسه ، حَتَّى تَنْقَاد لَهُ ، وَيُذْعِن لِتَحَمُّلِ الشِّدَّة , فَعِنْد ذَلِكَ يَكُون اللَّه مَعَهُ فَيُظْفِرهُ بِمَطْلُوبِهِ " .
الفتح" (11/304) .
وقَالَ اِبْن الْجَوْزِيّ رحمه الله : " لَمَّا كَانَ التَّعَفُّفُ يَقْتَضِي سَتْرَ الْحَالِ عَنِ الْخَلْقِ وَإِظْهَارِ الْغِنَى عَنْهُمْ فَيَكُونُ صَاحِبُهُ مُعَامِلًا لِلَّهِ فِي الْبَاطِنِ فَيَقَعُ لَهُ الرِّبْحُ عَلَى قَدْرِ الصِّدْقِ فِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا جُعِلَ الصَّبْرُ خَيْرَ الْعَطَاءِ لِأَنَّهُ حَبْسُ النَّفْسِ عَنْ فِعْلِ مَا تُحِبُّهُ وَإِلْزَامُهَا بِفِعْلِ مَا تَكْرَهُ فِي الْعَاجِلِ مِمَّا لَوْ فَعَلَهُ أَوْ تَرَكَهُ لَتَأَذَّى بِهِ فِي الْآجِلِ ".
انتهى من الفتح" (11/304) .
وقال القرطبي رحمه الله :
" وقوله : "ومن يستعفف" ؛ أي : عن السؤال للخلق .
"يعفه الله: ؛ أي : يجازه فضيلة التعفف على استعفافه ، بصيانة وجهه ، ورفع فاقته" انتهى من " المفهم" (9/66) .
قَوْله : ( وَمَا أُعْطِىَ أَحَدٌ عَطَاء خَيْرًا وَأَوْسَع مِنْ الصَّبْر )
قال القاري :
" وَذَلِكَ لِأَنَّ مَقَامَ الصَّبْرِ أَعْلَى الْمَقَامَاتِ ؛ لِأَنَّهُ جَامِعٌ لِمَكَارِمِ الصِّفَاتِ وَالْحَالَاتِ ، وَمَعْنَى كَوْنِهِ أَوْسَعَ : أَنَّهُ تَتَّسِعُ بِهِ الْمَعَارِفُ ، وَالْمَشَاهِدُ ، وَالْأَعْمَالُ ، وَالْمَقَاصِدُ " .
انتهى من "مرقاة المفاتيح" (4/ 1311) .
وقال ابن بطال :
" أرفع الصابرين منزلة عند الله من صبر عن محارم الله ، وصبر على العمل بطاعة الله ، ومن فعل ذلك فهو من خالص عباد الله وصفوته ، ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم : ( لن تعطوا عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر ) " .
انتهى من " شرح صحيح البخارى " (10/ 182) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" فِي الْحَدِيث الْحَضّ عَلَى الِاسْتِغْنَاء عَنْ النَّاس وَالتَّعَفُّف عَنْ سُؤَالهمْ بِالصَّبْرِ وَالتَّوَكُّل عَلَى اللَّه وَانْتِظَار مَا يَرْزُقهُ اللَّه , وَأَنَّ الصَّبْر أَفْضَل مَا يُعْطَاهُ الْمَرْء لِكَوْنِ الْجَزَاء عَلَيْهِ غَيْر مُقَدَّر وَلَا مَحْدُود " انتهى من " الفتح " (11/304) .
وقال النووي رحمه الله :
" فِي هَذَا الْحَدِيثِ : الْحَثُّ عَلَى التَّعَفُّفِ وَالْقَنَاعَةِ وَالرِّضَا بِمَا تَيَسَّرَ فِي عَفَافٍ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا " انتهى من "شرح مسلم" (7/ 126) .
والله أعلم .
م/ن