تمييز ابن تيمية بين (إرادة الشعب) و (التدرج) |
|
إبراهيم السكران |
|
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمدلله وبعد،،
التدرج في تطبيق الشريعة للمصلحة الراجحة أصل شرعي محكم مشهور، نص عليه كل من أعرف من أهل العلم في بلدنا، ومن ذلك –على سبيل المثال فقط- أن الشيخ ابن عثيمين رحمه الله ألف رسالة مشهورة اسمها (منهاج أهل السنة في العقيدة والعمل) وكانت من مؤلفات الشيخ التي كتبها بيده، لا إملاءً في دروسه، وعقد الشيخ في هذه الرسالة فصلاً سماه (طريقة أهل السنة في إصلاح المجتمع) ومما جاء في هذه الفصل قول الشيخ ابن عثيمين:
(جاءت الشريعة الإسلامية بالتدرج في التشريع شيئاً فشيئاً، وهكذا المنكر لابد أن نأخذ الناس فيه بالمعالجة حتى يتم الأمر)[مجموع فتاوى ابن عثيمين، جمع فهد السليمان: ص 5/210].
وثمة موضع جميل بديع تحدث فيه الإمام شيخ المحققين ابو العباس ابن تيمية –جمعنا الله به جميعاً في قصور الفردوس اللهم آمين- مميزاً بين مسألتين بشكل واضح، حيث ميّز بين (إرادة الشعب) وبين (التدرج في إقامة الشرع للمصلحة الراجحة).
يقول الإمام ابن تيمية في التمييز بين قاعدة (التدرج) وبين مبدأ (إرادة الشعب) :
(فليس حُسن النية بالرعية والإحسان إليهم أن يفعل ما يهوونه ويترك ما يكرهونه، فقد قال الله "ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن"، وقال تعالى للصحابة "واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم"، وإنما الإحسان إليهم فعل ما ينفعهم في الدين والدنيا ولو كرهه من كرهه؛ لكن ينبغي له أن يرفق بهم فيما يكرهونه، ففي الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال "ما كان الرفق في شيء إلا زانه ولا كان العنف في شيء إلا شانه"، وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يقول "والله إني لأريد أن أخرج لهم المرة من الحق فأخاف أن ينفروا عنها فاصبر حتى تجيء الحلوة من الدنيا فأخرجها معها فإذا نفروا لهذه سكنوا لهذه")[مجموع الفتاوى:28/364].
فتأمل كيف قرر قاعدة التدرج والرفق في التطبيق، لكنه في نفس الوقت قرر أن المناط في الحكم بالشرع ليس رغبة الشعب وعدم رغبتهم، فقال "ولو كرهه من كرهه" ومن ألطف ما في عرضه هو استنباطه من النصين القرآنيين "لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم" وقوله تعالى "ولو اتبع الحق أهواءهم" وهاتان الآيتان العظيمتان تقتلعان من الجذور نظرية إناطة الشرع بصناديق الاقتراع دون اضطرار.
وقد قرأت لبعض أهل العلم والفضل مقالة في سيادة الشريعة أصاب فيها مرةً، وأخطأ فيها أربع مرات، فأما صوابه فإنه قرر أن السيادة للشريعة لا للأمة، وقرر أن سيادة الأمة تابعة وخاضعة لسيادة الشريعة، لا العكس كما يقرر أهل الأهواء، بل جعل هذه المسألة من مسائل الإجماع التي لا يتصور الخلاف فيها، وهذا تقرير بديع موافق لأصول أهل السنة، وليس بمستغرب على عالم تقي له خبرة في كتب الفقه لا ينكرها إلا مكابر.
وأما الخطأ ففي أربعة مواضع:
الخطأ الأول: أنه توهم أن النزاع إنما هو في (التدرج في تطبيق الشريعة) وأنه ليس ثمة نزاع في لزوم الشريعة بالقدرة والإمكان، وهذا وهم وذهول، فمسألة (التدرج) خارج محل النزاع أصلاً، ولعل سبب هذا الوهم الاستعجال وعدم وجود وقت كافٍ لقراءة المقالات التي انتصرت لسيادة الشريعة، فكل من انتصر لسيادة الشريعة من أهل العلم والفضل أشار إلى مشروعية التدرج صراحةً أو ضمناً، وأنه ليس هو موضع النزاع.
وسأذكر نماذج من ذلك:
فمن ذلك قول فضيلة الشيخ د.سعد مطر -حفظه الله- في مقالته الدقيقة عن سيادة الشريعة:
(حالات الضرورة الاستثنائية ، لا تخرم مبدأ سيادة الشريعة بحال ؛ وإنّما قد ترفع الإثم عن التأخر الاضطراري في إعلان تحكيم الشريعة، أو التدرج في تطبيقها ؛ وهذه مسألة خارجة عن محل الإشكال)[مقال: سيادة الشريعة من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام، موقع رؤى فكرية].
فتلاحظ أن الشيخ د.سعد مطر وفقه الله قرر مشروعية التدرج، وأنه خارج محل النزاع.
وقال الشيخ سعد مطر أيضاً:
(وبناء على رأي جمهور فقهاء العصر في مشروعية التدرج في تطبيق العدل الإسلامي "الشريعة الإسلامية"، تمت مشاركة الحركات الإسلامية بالدول العلمانية في العمل السياسي ببلادهم)[المصدر السابق].
وقال الشيخ فهد العجلان في مقالته عن تحرير محل النزاع في مسألة سيادة الشريعة:
(ولا إشكال مع من يريد الوصول إلى الحكم بشكل تدريجي.. هذا كله خارج محل النزاع)[مقال: الإلزام بالشرع وتحرير محل النزاع، موقع رؤى فكرية].
وقال الشيخ عبد الله العجيري في مقالته عن سيادة الشريعة مؤكداً مشروعية مسألة التدرج وأنها خارج محل النزاع:
(ليست المشكلة.. في أن الأمر قد يستدعي أناةً، وطول نفسٍ، وتدرجٍ، لفرض هذه الهيمنة الشرعية في الواقع)[مقال: على هامش سجال السيادة، موقع رؤى فكرية].
وهكذا كل من دافع عن سيادة الشريعة يقرر مشروعية التدرج، وأنه ليس موضع الاستنكار.
الخطأ الثاني: أنه عرّض بأهل العلم والفضل الذين نصروا سيادة الشريعة، أنهم يطعنون في من يتبنى التدرج بأنه "قد أتى زورًا، وغشي فجورًا، وأنهم ظنوا به ظن السوء، ورموه بأنه منكر لوجوب الحكم بما أنزل الله، وأنه منافق".
وهذا كله –والله- ظلم فادح، وبغي على أهل العلم والفضل، فكيف يقال عن الدعاة أنهم يطعنون في من يتبنى التدرج، وهم يقررون التدرج وينصون أنه خارج محل النزاع! والله تعالى يقول (سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ)[الزخرف:19] ويقول الله سبحانه (وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ)[المعارج:33].
وإنما موضع النزاع هو: هل تطبيق الشريعة في الإسلام منوط بالقدرة والإمكان أم منوط باختيار الشعب؟ وصورة المسألة تتحقق في السؤال التالي: من حصلت له من ولاة الأمر القدرة والإمكان في تطبيق حكم شرعي فهل يلزمه استفتاء إرادة الشعب عليه، أم يلزمه تطبيقه مباشرة لأن الأصل هو وجوب الشرع؟
فأصحاب مذهب (سيادة الشريعة) يعتقدون وجوب تطبيق الحكم الشرعي إذا وجدت القدرة والإمكان وهو الذي تنتفي فيه المفسدة الراجحة، وأصحاب مذهب (سيادة الشعب) يعتقدون أن الحكم الشرعي لا يطبق حتى يستفتى الشعب، مهما وجدت القدرة والإمكان، وإذا طبق ولي الأمر الحكم الشرعي دون استفتاء شعبي فقد ظلم واعتدى ولا يشكر في مسعاه، بل يجب نقده لأنه ضد الحرية!
هذه هي صورة المسألة التي تمعرت لها قلوب المؤمنين، وفزعوا، وصاروا يكتبون فيها مجمعين على الاستنكار والاستبشاع دون تشاعر ولا تواطؤ، بل بعض من يحسن الظن ببعض هذه الشعارات وأصحابها انكشف له خطورة هذه الأفكار الليبرالية، إذ لأول مرةٍ تتم الجرأة على وضع سيادة الشريعة مقابل سيادة الشعب، بل وتوضع صورة رمزية على شكل ميزان فيه انتصار كفة الحرية على كفة الشريعة، وهي ليست صورة عفوية التقطت من الشبكة، بل واضح أنها صورة مصممة على وقع هذا السجال.
فالمراد أن إناطة الشريعة بـ(القدرة والإمكان) هو قول فقهاء الإسلام قاطبة، وإناطة الشريعة بـ(صناديق الاقتراع) دون اضطرار؛ هو قول الليبرالية الذي تسلل إلى عقول بعض أبناء المسلمين للأسف بسبب ضغط عواصف الروح الليبرالية الغربية التي تكسرت أمامها مجاديف الإيمان في كثير من القلوب.
فأهل العلم والفضل الذين كتبوا في هذه المسألة يستنكرون إناطة الشريعة باختيار الشعب من حيث الأصل، وهي التي قالوا فيها العبارات الحازمة المناسبة لهذا المقام، فكيف ينسب إليهم أنهم يطعنون في من يرى التدرج؟! يا رحم الله العدل والإنصاف.
الخطأ الثالث: التحدث عن قاعدة (التدرج في تطبيق الشريعة) في سياق الاعتذار عن من يقرر أن (سيادة الشعب مقدمة على سيادة الشريعة)؛ ومن فعل ذلك فقد استعمل معنى صحيحاً في الاعتذار عن من يقرر معنى باطلاً، وهذا كمن يتحدث عن أهمية تنزيه الله في الاعتذار لمن يعطل الصفات، أو كمن يتحدث عن قاعدة الرجاء في الاعتذار لمن يقرر الإرجاء، أو كمن يتحدث عن قاعدة "أنتم أعلم بأمر دنياكم" في الاعتذار عن من يقرر العلمانية، أو من يتحدث عن قاعدة "كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم" في الاعتذار عن من يقرر الاشتراكية، ونحو ذلك، وهذا سلوك خاطيء شائع، وهو أن يذكر المرء معنى صحيحاً في الاعتذار عن من يقرر معنى باطل، وهذا السلوك الخاطئ قد يقع فيه بعض أهل العلم والفضل، والله يغفر لهم.
-الخطأ الرابع: هو سوء التفهم لمقالات أهل العلم والفضل الذين يذبون عن سيادة الشريعة، وحملها على غير محاملها، في مقابل حسن التفهم لمقالات أهل الأهواء، والتعسف في وضع أفكارهم الباطلة تحت معنى شرعي صحيح! وهذه من أكثر الأمور إيلاماً لي بشكل خاص، ويعلم الله أنها كانت السبب الرئيس لكتابة هذا التعليق، فلا شيء في هذه الساحة الفكرية أبغض لي ممن يشتري رضا الليبراليين والمتلبرلين بالطعن في إخوانه، هذا والله خلاف المروءة، والله يغفر لشيخنا.
أسأل الله أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، ويرزقنا الحمية للشريعة والإسلام، والرحمة واللين مع دعاة الإسلام، والحزم مع أهل الأهواء الذين يوهنون أمر الشريعة في نفوس الناس، وأن لا يجعلنا بضد ذلك، قساة على الدعاة، رحماء بأهل الأهواء.
وأوصي نفسي وإخواني جميعاً بنصيحة ابن القيم التي قال فيها:
(وأي دين؟ وأي خير؟ فيمن يرى محارم الله تنتهك، وحدوده تُضاع، ودينه يُترك، وسنة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يُرغب عنها؛ وهو بارد القلب، ساكت اللسان.. فإن القلب كلما كانت حياته أتم؛ كان غضبه لله ورسوله أقوى، وانتصاره للدين أكمل)[إعلام الموقعين:2/221]
فإنني صرت أرى في نفسي، وفي كثيرٍ من إخواني من حولي تناقص الغيرة والغضب لله ورسوله، وقد بوب البخاري باباً نفيساً سماه (باب الغضب في الموعظة والتعليم) وساق فيه ثلاثة أحاديث فيها غضب النبي لله، وساق في غير هذا الموضع أحاديث أخرى مماثلة.
والله أعلم
ابوعمر
محرم 1433ه