إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه وسلم.
وبعد:
فإن التفقه في الدين من أفضل الأعمال، وهو علامة الخير: قال صلى الله عليه وسلم: ( من يرد الله به خيرا؛ يفقه في الدين) [البخاري ومسلم] وذلك لأن التفقه في الدين يحصل به العلم النافع الذي يقوم عليه العمل الصالح.
قال الله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ ﴾ [التوبة:33] فالهدى هو العلم النافع، ودين الحق هو العمل الصالح.
وقد أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسأله الزيادة من العلم: قال تعالى: ﴿ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴾ [طه:114].
قـال الحـافـظ ابن حجـر: « وهذا واضح الدلالة في فضل العلم؛ لأن الله لم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بطلب الازدياد من شيء؛ إلا من العلم » [ انظر: الفتح الباري 1/ 187 ] وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم المجالس التي يتعلم فيها العلم النافع بـ ( رياض الجنة )، وأخبر أن العلماء هم ورثة الأنبياء.
ولا شك أن الإنسان قبل أن يقدم على أداء عمل ما، لا بد أن يعرف الطريقة التي يؤدي بها ذلك العمل على وجهه الصحيح، حتى يكون هذا العمل صحيحا، مؤديا لنتيجته التي ترجى من ورائه؛ فكيف يقدم الإنسان على عبادة ربه التي تتوقف عليها نجاته من النار ودخوله الجنة: كيف يقدم على ذلك بدون علم ؟!
ومـن ثـم افتـرق النـاس بالنسبـة للعلـم والعمـل ثـلاث فـرق:
الفريق الأول: الذين جمعوا بين العلم النافع والعمل الصالح، وهؤلاء قد هداهم الله صراط المنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.
الفريق الثاني: الذين تعلموا العلم النافع ولم يعملوا به، وهؤلاء هم المغضوب عليهم من اليهود ومن نحا نحوهم.
الفريق الثالث: الذين يعملون بلا علم، وهؤلاء هم أهل الضلال من النصارى ومن نحا نحوهم.
ويشمل هذه الفرق الثلاث قوله تعالى في سورة الفاتحة التي نقرؤها في كل ركعة من صلواتنا: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾ [الفاتحة:6 ـ 7]
« وأما قوله تعالى: ﴿ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾ [الفاتحة:7]؛ فالمغضوب عليهم هم العلماء الذين لم يعملوا بعلمهم، والضالون العاملون بلا علم: فالأول: صفة اليهود، والثاني: صفة النصارى.، وكثير من الناس إذا رأى في التفسير أن اليهود مغضوب عليهم وأن النصارى ضالون؛ ظن الجاهل أن ذلك مخصوص بهم، وهو يقرأ أن ربه فارض عليه أن يدعو بهذا الدعاء، ويتعوذ من طريق أهل هذه الصفات !! فيا سبحان الله ! كيف يعلمه الله ويختار له ويفرض عليه أن يدعو ربه دائما؛ مع أنه لا حذر عليه منه، ولا يتصور أن فعله هذا هو ظن السوء بالله ؟! » [انظر: تاريخ نجد لابن غنام ص 491 ] انتهى كلام الشيخ رحمه الله.
وهو يبين لنا الحكمة في فريضة قراءة هذه السورة العظيمة - سورة الفاتحة - في كل ركعة من صلاتنا؛ فرضها، ونفلها؛ لما تشتمل عليه من الأسرار العظيمة، التي من جملتها هذا الدعاء العظيم: أن يوفقنا الله لسلوك طريق أصحاب العلم النافع والعمل الصالح، الذي هو طريق النجاة في الدنيا والآخرة، وأن يجنبنا طريق الهالكين، الذين فرطوا بالعمل الصالح أو بالعلم النافع.
ثم اعلم أيها القارئ الكريم أن العلم النافع إنما يستمد من الكتاب والسنة تفهماً وتدبراً، مع الاستعانة على ذلك بالمدرسين الناصحين وكتب التفسير وشروح الحديث وكتب الفقه وكتب النحو واللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم، فإن هذه الكتب طريق لفهم الكتاب والسنة.
فواجب عليك يا أخي المسلم - ليكون عملك صحيحا - أن تتعلم ما يستقيم به دينك؛ من صلاتك وصومك وحجك، وتتعلم أحكام زكاة مالك، وكذلك تتعلم من أحكام المعاملات ما تحتاج إليه؛ لتأخذ منها ما أباح الله لك؛ وتتجنب منها ما حرم الله عليك؛ ليكون كسبك حلالا، وطعامك حلالا؛ لتكون مجاب الدعوة، كل ذلك مما تمس حاجتك إلى تعلمه، وهو ميسور بإذن الله متى ما صحت عزيمتك وصلحت نيتك.
فاحرص على قراءة الكتب النافعة، واتصل بالعلماء؛ لتسألهم عما أشكل عليك، وتتلقى عنهم أحكام دينك، وكذلك تعني بحضور الندوات والمحاضرات الدينية التي تقام في المساجد وغيرها، وتستمع إلى البرامج الدينية من الإذاعة، وتقرأ المجلات الدينية والنشرات التي تعني بمسائل الدين، فإذا حرصت وتتبعت هذه الروافد الخيرية؛ نمت معلوماتك، واستنارت بصيرتك.
ولا تنس يا أخي أن العلم ينمو ويزكو مع العمل فإذا عملت بما علمت؛ زادك الله علما؛ كما تقول الحكمة المأثورة: « من عمل بما علم؛ أورثه الله علم ما لم يعلم »، ويشهد لذلك قوله تع_الى: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة:282].
والعلم أحق ما تصرف فيه الأوقات، ويتنافس في نيله ذوو العقول، فبه تحيا القلوب وتزكو الأعمال.
ولقد أثنى الله جل ذكره وتقدست أسماؤه على العلماء العاملين، ورفع من شأنهم في كتابه المبين :
قال تعالى: ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر:9].
وقال تعالى: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [المجادلة:11]؛ فبين ـ سبحانه وتعالى ـ ميزة الذين أوتوا العلم المقرون بالإيمان، ثم أخبر أنه خبير بما نعمله، ومطلع عليه؛ ليدلنا على أنه لا بد من العلم والعمل معا، وأن يكون كل ذلك صادرا عن الإيمان ومراقبة الله سبحانه.
ونسأل الله أن يمدنا وإياك بالعلم النافع، ويوفقنا للعمل الصالح، ونسأله سبحانه أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه، إنه سميع مجيب.
م/ن