حين نتأمل في كتاب الله تعالى نجد أنَّ أكثر القصص وروداً وذكراً في هذا الكتاب العزيز هي قصة كليم الرحمن سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام مع عدو الرحمن فرعون , وحيث ما وردت هذه القصة فاعلم أنَّ هناك فائدة لم تـُذكر في المواضع الأخرى , وليس هذا مقام سرد تلك القصة بجميع تفاصيلها وإظهار العبر المستفادة منها فذلك يحتاج إلى سفر كبير .
لكن سيتم ذكربعض القواعد التي اعتمد عليها فرعون وأقام عليها دولة الطغيان فكانت مرجعاً لكل جبارٍ عنيد ولكل حاكم مستبد وقد ذكرها الله تعالى في كتابه حتى يتدبرها المتدبرون ويعتبر بها المعتبرون وهي :
القاعدة الأولى :
" قَالَ فِرْعَوْنُ مَآ أُرِيكُمْ إِلاّ مَآ أَرَىَ وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاّ سَبِيلَ الرّشَادِ "
ففي هذا القول يتفرد فرعون برأيه وينفي كل رأي غير رأيه فالرأي له وحده وهو الحق وما عداه باطل وضلال , وهذه القاعدة هي رأس الإستبداد فمن احتكر الحق من غير برهان ساطع ودليل قاطع فهو المستبد من غير شك ولا ريب.
وهذا بخلاف من يعجب برأيه لكن هذا الإعجاب لا يبيح له مصادرة القول الآخر وقد يأخذ الحق من المخالف إن كان عليه دليل , فما أحسن منهج الإمام الشافعي رحمه الله حين قال:
قولي صواب يحتمل الخطأ وقو غيري خطأ يحتمل الصواب
فيا ليت أننا عند عرض ما عندنا من أفكار نطبق هذه المقولة الشافعية ونحترم قول المخالف إن كان له وجهة من دليل , ونبترأ من قاعدة فرعون.
القاعدة الثانية :
" وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ ماعَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي "
وقوله :" فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى"
وليس من شرط دعواه الألوهية أن يـُسجد له من دون الله أو أن تـُصرف له العبادة الظاهرة بل مفهوم العبادة أكبر كالخوف والرجاء والمحبة والبغضاء وغيرها ومنها الطاعة في التحليل والتحريم فلا يحلل ولا يحرم إلا الله تعالى ومن أدعى ذلك لنفسه فقد جعل نفسه نداً لله تعالى .
والطاعة المطلقة لا تكون إلا لله تعالى وللرسول صلى الله عليه وسلم .
فانظر إلى صنيع فرعون وكبره وإعجابه بنفسه كيف جعل من نفسه رباً معبوداً واستخف قومه فأطاعوه.
القاعدة الثالثة :
" وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ "
عندما ينتشرالفساد ويرضى الناس به ولا يستنكرونه ومع مرور السنين وتقادم الزمن يصبح الفساد
صلاحا والباطل حقا والمنكر معروفا فتنقلب الموازين وتألف النفوس ذلك الأمر وتقره.
فإذا أتى من يتنكر لهذا الأمر ويحاول الإصلاح وإعادة الأمر إلى ما كان عليه وإحقاق الحق
وإزهاق الباطل يكون من هذا شأنه في نظر الكثير مفسداً في الأرض داعية إلى الضلال وهذاالأمر
ظاهر للعيان فموسى عليه الصلاة والسلام عند فرعون وأتباعه مفسد وقل ذلك في كل مصلح يريد
الصلاح يجد الحرب معلنة عليه وهذا الأمر في جميع النواحي فمن يخرج على العادات المقيتة
فهوفي نظر المتمسكين بتلك العادات مفسد , ومن يخرج من ظلمات التمذهب والتقليد إلى أنوار
الدليل والإجتهاد فهو مفسد عند الكثير , ومن يطالب بالعدالة بين الناس وإعطاء كل ذي حق حقه
فهو مفسد عند الكثير .
هذه إشارة لبعض ما أسس به فرعون طغيانه.
وبعد أن أقام موسى عليه السلام الحجة على فرعون ودعاه إلى الله وألان له القول فلم يستجب
فرعون وأصر على كفره وعناده, دعا موسى ربه فاستجاب الله لدعائه قال الله تعالى :
" وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ "
وهكذا جرت سنة الله في أرضه قال سبحانه
"وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا "
وبعد : فهذا حال كل طاغية يسير في طريق فرعون لكن الغلبة والتمكين لا تكون إلا لأتباع الأنبياء
ويأبى الله تعالى إلا أن يعز عباده المستضعفين ويحق الحق ويزهق الباطل ويذل الجبارين والمستكبرين .
والله أكبر ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين.