إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله، فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[1].
أما بعد:
فإن خير الكلام كلام الله - تعالى -، وخير الهدى هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وإن شر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
التشبه بأهل الخير والتقوى والإيمان والطاعة فهذا حسن مندوب إليه، ولهذا يشرع الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في أقواله وأفعاله وحركاته وسكناته وآدابه وأخلاقه، وذلك مقتضى المحبة الصحيحة، فإن المرء مع من أحب، ولا بد من مشاركته في أصل عمله وان قصر المحب عن درجته.
ولما سأل ربيعة الأسلمي النبي - صلى الله عليه وسلم - مرافقته في الجنة، قال: ((فأعني على نفسك بكثرة السجود)) [مسلم].
فإنما يراد من صحبة الأخيار إصلاح الأعمال والأحوال والاقتداء بهم في ذلك، والانتقال من الغفلة إلى اليقظة، ومن البطالة إلى العمل، ومن التخليط إلى التكسب والقول والفعل إلى الورع، ومعرفة النفس وآفاتها واحتقارها، فأما من صحبهم وافتخر بصحبتهم وادعى بذلك الدعاوى العريضة وهو مصر على غفلته وكسله وبطالته فهو منقطع عن الله من حيث ظن الوصول إليه، كذلك المبالغة في تعظيم الشيوخ وتنـزيلهم منـزلة الأنبياء هو المنهي عنه.
وقد كان عمر وغيره من الصحابة والتابعين يكرهون أن يطلب الدعاء منهم ويقولون " أأنبياء نحن؟ "
فدل على أن هذه المنـزلة لا تنبغي إلا للأنبياء - عليهم السلام -، وكذلك التبرك بالآثار فإنما كان يفعله الصحابة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يكونوا يفعلونه مع بعضهم ببعض ولا يفعله التابعون مع الصحابة، مع علو قدرهم.
فدل على أن هذا لا يفعل إلا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل التبرك بوضوئه وفضلاته وشعره وشرب فضل شرابه وطعامه.
قال الحسن: لا تغتر بقولك المرء مع من أحب، أن من أحب قوما اتبع آثارهم، ولن تلحق الأبرار حتى تتبع آثارهم، وتأخذ بهديهم، وتقتدي بسنتهم، وتمسي وتصبح وأنت على مناهجهم، حريصاً أن تكون منهم، وتسلك سبيلهم، وتأخذ طريقتهم، وإن كنت مقصراً في العمل. فإن ملاك الأمر أن تكون على استقامة. أما رأيت اليهود والنصارى وأهل الأهواء الردية يحبون أنبياءهم وليسوا معهم لأنهم خالفوهم في القول والعمل وسلكوا غير طريقهم فصار موردهم النار؟ نعوذ بالله من النار.
فمن أحب أهل الخير وتشبه بهم جهده فإنه يلحق بهم كما في الحديث المشهور: ((من حفظ أربعين حديثا حشر يوم القيامة في زمرة العلماء)).
ومن أحب أهل الطاعة والذكر - على وجه السنة - وجالسهم يغفر له معهم وإن لم يكن منهم "فإنهم القوم لا يشقى جليسهم ".
فأما التشبه بأهل الخير في الظاهر، والباطن لا يشبههم فهو بعيد منهم، وإنما القصد بالتشبيه أن يقال عن المتشبه بهم انه منهم وليس منهم من خصال النفاق كما قال بعض السلف: "استعيذوا بالله من خشوع النفاق أن يرى الجسد خاشعاً، والقلب ليس بخاشع".
وكان السلف يجتهدون في أعمال الخير ويعدون أنفسهم من المقصرين المذنبين، ونحن مع إساءتنا نعد أنفسنا من المحسنين.
كان مالك بن دينار يقول: إذا ذكر الصالحون " أف، أف لي، وتوقف ".
وقال أيوب: "إذا ذكر الصالحون كنت عنهم بمعزل ".
وقال يونس بن عبيد: " أعد مائة خصلة من خصال الخير ليس منها فيَّ واحدة ".
وقال محمد بن واسع: " لو أن للذنوب رائحة لم يستطع أحد أن يجلس معي ".
يا من إذا تشبه بالصالحين فهو عنهم متباعد، وإذا تشبه بالمذنبين فحاله وحالهم واحد، يا من يسمع ما يلين الجوامد وطرفه جامد، وقلبه أقسى من الجلامد، يا من يرد قلبه عن التقوى، كيف ينفع الضرب البارد في حديد بارد؟
يا نفس أنـى تؤفكينَ؟ *** حتى متى لا ترعوينَ؟
حتى متى، لا تعقلينـا *** وتسمعينا وتبصريـنا؟
يا نفس إن لم تصلحـي *** فتشبهي بالصالحينـا
قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: لولا ثلاث لما أحببت البقاء، لولا أن أحمل على جياد الخيل في سبيل الله، ومكابدة الليل، ومجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما ينتقي أطايب التمر، يريد - رضي الله عنه - الجهاد والصلاة والعلم النافع، وهذه درجات الفضائل، وأهلها هم أهل الزلفى والدرجات العليا.
وقال معاذ - رضي الله عنه - عند موته اللهم: إنك تعلم أني لم أكن أحب البقاء لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولا لنكح الأزواج، ولكن لظمأ الهواجر، ومكابدة الليل، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر.
وقوله: ولا يشهد من نفسه إلا أثر النقصان يعني لا يرى نفسه إلا مقصرا والموجب له لهذه الرؤية استعظام مطلوبه واستصغار نفسه ومعرفته بعيوبها وقلة زاده في عينه. [مدارج السالكين (2/281-283)].