التربية الإيمانية وبناء الذات
تمهيـد:
في القسم الأول من هذا البحث تناولت وجهة نظر علماء النفس الغربيين حول موضوع بناء الذات، وذلك من خلال ما يسمى بالذكاء الوجداني أو الانفعالي. وسأحاول في هذا القسم عرض التصور الإسلامي ورؤيته حول الموضوع.
إن مفهوم الذات كما يتصوره الإسلام، يتحدد انطلاقا من علاقة المسلم الذاتية بالشريعة السمحة، والعقيدة الصحيحة القائمة على التوحيد.
فالشريعة هي المقياس للسلوك المقبول أو المرفوض، حيث أن المسلم الملتزم يحرص على ألا يكون سلوكه سلوكا عشوائيا أو غير موزون،
وإنما يضبط كل أقواله وأفعاله وجميع معاملاته بضوابط الشريعة، كما يجتهد في التأدب والتأسي بآداب وسنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
كما يرتبط مفهوم الذات في ضوء التصور الإسلامي بعنصر التوازن، حيث لا يطغى على الذات التفكير المادي والانفعالات الحادة، والانحرافات السلوكية، وتغدو في اتساق متناغم مع الشرع، دون تضاد في الأبعاد العقلية والجسمية والروحية والاجتماعية.
ويتصف مفهوم الذات في الإسلام بالايجابية، من خلال تفاعل الفرد مع الأحداث والتأثير فيها، وتوجيهها بما يرضي الله تعالى ويخدم مصلحة المجتمع، كما يرتبط بالجدية في العمل والتفاعل مع أنشطة الحياة المختلفة بكل حماس ونشاط من غير تكاسل وفتور.
ثم إن مفهوم الذات في الإسلام يعلي من قيمة الإرادة الحرة، التي هي من متطلبات التكليف الشرعي، ويشجع على استعمالها في أفعال الخير، تلك الأفعال التي يستفيد منها الناس في الدنيا ويجد صاحبها الجزاء الأوفى عند الله في الآخرة.
وإذا كان المسؤلون والمفكرون والمربون في البلاد الغربية، لا يهتمون بالدين، ولا يعتبرون التدين عاملا أساسيا في بناء الذات، فإن المفكرين والمربين والعقلاء وكثيرا من المسؤولين في العالم الإسلامي، ينطلقون في تصورهم لشخصية الإنسان المسلم وذاته من الدين الإسلامي المتجسد في الوحي الإلهي كتابا وسنة. كما يستلهمون الأعمال والنظريات والمناهج التربوية والسلوكية التي تزخر بها كتب التراث.
وغني عن البيان كما أثبت علماء تاريخ الأديان ، أن ظاهرة التدين كانت، ولا زالت، موجودة لدى جميع الشعوب القديمة والحديثة، وأن من اليسير علينا أن نجد أمما بغير علوم وفنون وفلسفات، ولكن من الصعب أن نجد أمة بغير دين، بغض النظر عن طبيعة هذا الدين، ومدى انسجامه مع تعاليم الأديان السماوية، من حيث الإيمان بالله.
” لقد حفلت كتابات المفكرين قديما وحديثا بدراسة موضوعية لظاهرة التدين لدى الإنسان، واعتمدوا في دراسة هذه الظاهرة على رصد تاريخي لسلوك الإنسان، منذ أقدم العصور، ووصلوا إلى نتيجة وقناعة بأن الشعور الديني هو غريزة فطرية لدى الإنسان، ظهرت آثارها عليه منذ فجر التاريخ، وكان يعبر عنها بوسائل مختلفة، بعضها مما يرفضه العقل لسذاجته، وبعضها مما يقبله العقل و لا يرفضه على الأقل، لاحتمال الصدق فيه، ومن هنا كان دور الأنبياء هاما وضروريا لتوجيه ظاهرة التدين لدى الإنسان نحو المنهج الصحيح، بحيث
لا تكون تلك الغريزة فريسة الأسطورة والخرافة، تقود صاحبها إلى التيه والضلال”.
وأعظم ما في الدين الصحيح؛ الإيمان القوي، فهو سره وروحه وحيويته، وليس الإيمان مجرد معرفة ذهنية بحقائقه، أو مجرد قيام الإنسان بأعمال وشعائر؛ فكم من واحد عرف وجحد، وآخر صلى وصام وهو منافق.
إن الإيمان في حقيقته عمل نفسي يبلغ أغوار النفس وأعماقها، ويحيط بجوانبها كلها من إدراك وإدارة ووجدان. كما لا بد أن يقترن بالمعرفة الإيمانية إذعان قلبي وانقياد إرادي، يتمثل في الخضوع والطاعة لله ورسوله.
قال الأستاذ سيد قطب رحمه الله:
” فالإيمان تصديق القلب بالله وبرسوله، التصديق الذي لا يرد عليه شك ولا ارتياب، التصديق المطمئن
الثابت المستقين الذي لا يتزعزع ولا يضطرب، ولا تهجس فيه الهواجس.
ولا يتلجلج فيه القلب والشعور، والذي ينبثق منه الجهاد بالمال والنفس في سبيل الله،
فالقلب متى تذوق حلاوة هذا الإيمان، واطمأن إليه وثبت عليه، لابد مندفع لتحقيق حقيقته في خارج القلب.
في واقع الحياة في دنيا الناس، يريد أن يوحد بين ما يستشعره في باطنه من حقيقة الإيمان، وما يحيط به في ظاهره من مجريات الأمور وواقع الحياة، ولا يطيق الصبر على المفارقة بين الصورة الإيمانية التي في حسه، والصورة الواقعية من حوله،
لأن هذه المفارقة تؤذيه وتصدمه في كل لحظة، ومن هنا هذا الانطلاق إلى الجهاد في سبيل الله بالمال والنفس.
فهو انطلاق ذاتي من نفس المؤمن. يريد به أن يحقق الصورة الوضيئة التي في قلبه، ليراها ممتلة في واقع الحياة والناس.
إن بناء الذات في التصور الإسلامي يقوم أساسا على الإيمان الصحيح المتدفق في قلب
الإنسان المسلم والساري في كيانه ووجدانه، والذي يدفعه إلى تلبية أوامر الشريعة الإسلامية الغراء.
وبعبارة أخرى فإن بناء الذات في هذا التصور هو بناء للشخصية المسلمة المتكاملة في نموها من الناحية الروحية والبدنية والانفعالية والوجدانية والعقلية والاجتماعية، كما أنه بناء للمسلم الصالح المؤمن بربه المتمسك بتعاليم دينه،
المتخلق بالأخلاق الفاضلة، المتزن في دوافعه وعواطفه ونزعاته، الذي يحسن التكيف مع نفسه ومع غيره،
والذي يدرك حقوقه وواجباته، ويتحمل مسؤوليته نحو نفسه وأسرته ومجتمع وأمته البشرية جمعاء.
منقول
_________