اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين :
-فذهب فريق من العلماء إلى عدم جواز إخراج القيمة في صدقة الفطر ، ووجوب إخراجها من الأصناف الخمسة المذكورة في الأحاديث ، وهي التمر والشعير والبر والزبيب والأقط ، وألحقوا بذلك الأرز ونحوه من الحبوب .
وحجتهم : أن هذا هو الذي ورد في السنة النبوية ، وأن زكاة الفطر من العبادات ، والأصل في العبادات التوقيف ، ولا يجري فيها القياس ولا الاستحسان ولا الاستصلاح ، وقالوا : إن الدراهم والدنانير كانت موجودة وقت التشريع ولم يذكرها النبي r ، ولم ينقل عن أحد من الصحابة أنه فعل ذلك .
-وذهب عمر بن عبد العزيز وأبو حنيفة ورواية عن أحمد ويحيى بن معين وغيرهم إلى جواز إخراج القيمة في زكاة الفطر ، وأن النبي r إنما ذكر تلك الأصناف لأنها كانت المتيسرة لهم .
قال ابن القيم في أعلام الموقعين : (( فأما أهل بلد أو محلة قوتهم غير ذلك فإنما عليهم صاع من قوتهم ، كمن قوتهم الذرة أو الأرز أو التين ، أو غير ذلك من الحبوب ، فإذا كان قوتهم من غير الحبوب كاللبن والسمك أخرجوا فُطرتهم من قوتهم كائنا ما كان . هذا قول جمهور العلماء ، وهذا الصواب الذي لا يقال بغيره ؛ إذ المقصود سد خلة المساكين يوم العيد ومواساتهم من جنس ما يقتاته أهل بلدهم ، وعلى هذا فيجزئ إخراج الدقيق وإن لم يصح فيه الحديث )) .
إلى أن قال : (( وإنما نص على الأنواع المخرجة لأن القوم لم يكونوا يعتادون اتخاذ الأطعمة يوم العيد ، بل كان قوتهم يوم العيد كقوتهم سائر السنة ، ولهذا لما كان قوتهم يوم عيد النحر من لحوم الأضاحي أمروا أن يطعموا منها القانع والمعتر . فإذا كان أهل بلد أو محلة عادتهم اتخاذ الأطعمة يوم العيد جاز لهم ، بل يشرع لهم أن يواسوا المسكين من جنس أطعمتهم ، فهذا محتمل يسوغ القول به ، والله أعلم )) .
وهذا الكلام من ابن القيم جيد نفيس يبين أن صدقة الفطر إنما شرعت للمواساة ، وأن ما يحقق المواساة يجوز العمل به ، وعلى هذا يجوز إخراج القيمة نقداً ؛ لما في ذلك من منفعة الفقير ومواساته ، ومن التيسير على المكلفين ، بل إن الذي يخرج القيمة يعد مخرجاً للصدقة وزيادة ، حيث أعطى الفقير عملياً فرصة اختيار ما يشاء من الأطعمة أو اختيار سواها مما يحقق له الإغناء ومما هو في نظره أهم .
ويلاحظ أن أصحاب القول الأول الذين يتشددون في إخراج الحبوب قد قيدوا ما لم يقيده الشارع ، فإن الأحاديث المذكورة لم يرد فيها من كلامه صلى الله عليه وسلم مطلقاً ولا في كلام أصحابه رضي الله عنه أي لفظ يدل على التعيين أو على منع إخراج غيرها وعدم جوازه ، ولذلك قال ابن القيم ما سبق أن نقلته عنه ، بل إن هؤلاء المتشددين قد وجدوا أنفسهم مضطرين إلى أن يقيسوا الأرز أو الذرة أو غيرها من الأصناف التي لم تذكر في النصوص على الأصناف التي ذكرت .
والادعاء بتقييدها بالحبوب - ومن ثم إدخال تلك الأصناف فيها - ادعاء لا يستند إلى نص ولا مفهوم ، ولذلك أجاز ابن القيم الأطعمة من غير الحبوب ، وأيا ما كان الأمر فإن الذي يجيز إخراج شيئ من غير الأصناف المذكورة في النصوص ملزم ولا بد بتجويز إخراج القيمة ، إذ لا فرق بين الأمرين.
أما قولهم : إن زكاة الفطر من العبادات والأصل فيها التوقيف ، فيجاب عنه بأن زكاة الفطر في أصلها معقولة المعنى كزكاة المال ، إذ المراد منها إغناء الفقراء وسد حاجات المحتاجين ، فيجب النظر فيها إلى ما هو أيسر على المعطي وأنفع للآخذ ، وليست مثل عدد الصلوات التي لا دخل للعقل في تحديدها ، ألا ترى أن المعطي لو أعطى أكثر مما يجب عليه قُبل منه ، بينما المصلي لو زاد في عدد الركعات بطلت صلاته ؟ .
وأما أن النبي rلم يذكر الدنانير والدراهم ولم ينقل عن الصحابة أنهم أخرجوها في زكاة الفطر ، فيجاب عنه : بأنها كانت قليلة عزيزة عندهم ، وكانوا يتبادلون هذه المواد الغذائية كأنها نقود ، فلم يكن من الحكمة تكليفهم بما يشق عليهم ، ثم إن تحديد مبلغ نقدي معين قد تتغير قيمته بتغير الأيام ، لكن ربطه بشيء يحتاجه الإنسان يكون أضبط ، ولا يتأثر بارتفاع الأسعار أو انخفاضها .
فإذا كان الحال قد تغير ، وصارت النقود هي الأسهل ، وهي المحققة للمقصود الشرعي ، وهي الأيسر على المكلف والأنفع للآخذ ، فما المانع أن يخرج المكلف القيمة إن شاء ؟ وبذلك نعفيه من مشقة شراء الحبوب ، ونعفي الفقير من مشقة تخزينها أو إعادة بيعها بأقل من سعرها ، كما نحمي الأمة من جشع بعض التجار الذين يستغلون ذلك لرفع الأسعار ، بل ونحمي الشريعة من العبث الذي يفعله بعض الناس في بعض البلاد حين يقف التاجر فيبيع للشخص المقدار الشرعي من الأرز مثلا ، وعلى مقربة منه يقف الفقراء الذين يأخذون الأرز من المزكي ليعيدوا بيعه - أو تسليمه - للتاجر ليعيد بيعه لشخص جديد ، وهلم جرا .
ولهذا فإنني مع أكثر أهل العلم الموثوق بدينهم وعلمهم في عصرنا الذين أجازوا إخراج القيمة ، بل اعتبروا إخراج القيمة أفضل من إعطاء الحبوب، لما يترتب على ذلك من مصالح شرعية وقضاء لمصالح المسلمين، والله أعلم .